منتديات المستقبل السودانية

الزائر الكريم منورنـا في منتديات المستقبل السودانية .. نتشرف بزيارتك ولكن سوف نتشرف أكثر بتسجيلك معانا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات المستقبل السودانية

الزائر الكريم منورنـا في منتديات المستقبل السودانية .. نتشرف بزيارتك ولكن سوف نتشرف أكثر بتسجيلك معانا

منتديات المستقبل السودانية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

المواضيع الأخيرة

» في البدء كانت إشارة الإستفهام
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالإثنين 25 يناير - 2:49 من طرف سراج منير

» اشراك الساعة الصغرى
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالأحد 24 يناير - 23:23 من طرف سراج منير

» آخر جيل من العرب
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالسبت 23 يناير - 8:03 من طرف سراج منير

» هلاك العرب في آخر الزمان
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالسبت 23 يناير - 7:46 من طرف سراج منير

» الملتقي العربي العاشر استشراف اداء الدوائر الحكومية شرم الشيخ –جمهورية مصر العربية للفترة من 5 – 8 ابريل 2020 م
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالأحد 1 مارس - 5:22 من طرف محمد أحمد سويلم

» البرنامج التدريبي التميز والإبداع في التطوير الإداري وتنمية الموارد البشرية للفترة من 22-31 مارس 2020م تقام فى نفس التاريخ فى كلا من (دبي – القاهرة – اسطنبول – كوالالمبور )
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالإثنين 20 يناير - 23:57 من طرف محمد أحمد سويلم

» ورشة عمل جدارات إدارة العمل بذكاء للفترة من 22-26 مارس 2020م تقام فى نفس التاريخ فى كلا من (دبي – القاهرة – اسطنبول – كوالالمبور )
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالجمعة 10 يناير - 23:51 من طرف محمد أحمد سويلم

» ماجستير ادارة الاعمال بشرم الشيخ ( اقامة كاملة مع برنامج سياحي يشمل ( Diving and snorkeling في Blue Hole – حفلة مسائية على مسرح الف ليله وليليه – الذهاب ليلا الى منطقة Soho Square والتمتع بمشاهدة النافورة الراقصة )
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالثلاثاء 7 يناير - 0:38 من طرف محمد أحمد سويلم

» الملتقي العربي العاشر (استشراف اداء الدوائر الحكومية ) شرم الشيخ –جمهورية مصر العربية
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالإثنين 6 يناير - 0:10 من طرف محمد أحمد سويلم

» ماجستير إدارة العقود والمناقصات المهني المصغر
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالإثنين 23 ديسمبر - 6:25 من طرف محمد أحمد سويلم

» فعاليات الورش والبرامج التي تبداء في 16 فبراير 2020 م
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالخميس 5 ديسمبر - 3:43 من طرف محمد أحمد سويلم

» دعوة للمشاركة بالمؤتمر العربى العاشر : تكنولوجيا الموارد البشريه - بالقاهرة
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالأربعاء 27 نوفمبر - 5:34 من طرف محمد أحمد سويلم

» فعاليات وحدة الشهادات المهنية باعتماد جامعة ميزوري الامريكية - فبراير 2020م
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالثلاثاء 19 نوفمبر - 5:04 من طرف محمد أحمد سويلم

» البرنامج التدريبي أساليب تحليل المشكلات وصناعة القرارات للفترة من 5 - 9 يناير 2020 م
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالخميس 31 أكتوبر - 4:47 من طرف محمد أحمد سويلم

» البرنامج التدريبي إستشراف المستقبل و أدواته في دعم إتخاذ القرار و بناء المستقبل للفترة من 22-26 ديسمبر2019م
الجنقو مسامير الارض Icon_minitimeالأربعاء 23 أكتوبر - 7:04 من طرف محمد أحمد سويلم


2 مشترك

    الجنقو مسامير الارض

    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 15:04

    الجنقو مسامير الارض رواية بركة ساكن
    فازت بالجائزة الاولى فى مهرجان الطيب صالح للابداع الروائى
    فى نسخته السابعة 21 / اكتوبر 2010
    بمركز عبد الكريم ميرغنى الثقافى - امدرمان
    لها اكثر من شهرين وهى حبيسة المطار
    واخيرا ارسلت المصنفات الادبية خطابا الى المركز
    بمنع دخول الرواية السودان ؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!
    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 15:13

    الفصل الأول: سبتمبروَدْ أَمْوُنَةَ: السِجِنُ والسَجّانُ

    هذا ما تحصلتُ علية مِنْ عدة حُكاة ورواة، من بينهم حَبيبتي ألمْ قِشْي، و الأُم، مُختار علي، الصافية وود أمُونة نفسه ،مع بعض التدخل و قليل من التاويل و التحوير و الإلتفاف من قبلنا؛ لحكاية ود أمونة في السجن.
    قرر بينه وبين نفسه ألا يغسل الأطباق بعد اليوم ولو أنهم نفذوا تهديدهم ورموا به في الشارع، لا يهم يستطيع أن يبقى خارج السجن ويمكنه النوم تحت الجدار الذي يقابل غرفة أمه، وسوف يأكل ما ترميه أمه له من أعلى السور، وهو أيضاً يعرف كيف يصطاد الطيور والفئران ويشويها، عن طريق المهارات القتالية التي اكتسبها من والدته، يستطيع أن يحارب الأشرار، قد لا يعرفهم الآن ولكنه سينتصر عليهم بمجرد أن يشرعوا في مهاجمته، قطعت حبل تفكيره أنامل الشامة على رأسه،
    تعال عليك الله فليني يا ود أمونة. -
    كانت أمه أمونة تقول له دائماً:
    ( كَاَنْ جُوُكْ عِشْرين أو مِيَّة، إنت أَمْسِكْ وَاحْد بَسْ، وإن شاء الله تعضيهُ بسنونك، إن شاء الله تخربشهُ بأظافرك، إن شاء الله تَدَخِلْ يدينك في عينهُ، لكن ما تخلي حَقكْ ولا تبكي ولا تجري. الدُنيا دِي مَا بِيَنَفَعْ فِيها الضَعِيفْ.)
    أنا لا أحب الشامة، بالذات، عندها ريحة في فمها أعفن من البول، رأسها كله قمل، ووساخة،وقالوا كتلت راجلها، قالت ليّ الشامة
    - أُمُك الليلة طلعوها خدمة في بيت المأمور، أنا ما عارفة المأمور دا عايز منها شنو ما عايز يخليها في حالها.
    (ما حأغسل الصُحانة) قال ود أمونة مصدرا أمراً لنفسه.
    طباخ السجن النحيف صاحب الأصابع الطويلة واليدين الممسكتين دائماً بالكمُشَةَ أو المِفْرَاكَة، كان يرى في ود أمونة مستقبل طباخ ماهر،
    ( ود أمُونة يشبهني في أشياء كثيرة عندما كنت طفلاً كنت مثله وسيماً وسميناً وكسولاً وكثير الشجار مع الأطفال ولكني أيضاً كنت أحب أن أكون في صحبة النساء مثله تماماً)
    أكثر ما لا يُحبه ود أمونة في طباخ السجن، بالإضافة إلى أطباقه التي دائماً ما تحتاج إلى من يغسلها من الويكة ودهن إدام القرع، أن طباخ السجن ...........

    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 15:18

    بعد أن فرغ ود أمونة بالأمس من غسيل الأطباق ورصها بانتظام على دولاب الحديد طلب منه طباخ السجن أن يلعبا (طُرة كِتابة)، قال له طباخ السجن
    - كان غلبتني- تديني بُوسَة- وكان غلبتك أديك بُوسَة.
    وبصق سَفّة الصعوط جانباً قرب قدر كبير على الفحم، وبحركة بهلوانية أخرج قطعة عملة من الحديد الفضي، أطارها في الهواء، ثم تلقاها بكفه، وبسرعة البرق أغلق عليها بكل أصابعه واضعاً في نفس اللحظة ابتسامة على طول وعرض فمه الكبير، بين أسنان صفراء متفرقة بارزة، سأل ود أمونة
    - طُرة ولاّ كِتابة؟
    أطار بعض رذاذ البصاق في الهواء، سقط بعضه على وجه ود أمونة، مسحه بباطن كفه في قرف، أكثر ما أكرهه في هذا الشخص هو شفاهه المبتلة دائماً بالبصاق ورائحة الصعوط.
    قالت له الشامة وهي تعيد نظم ضفيرة من الشعر المستعار على رأسها
    - أمك حتجي بعد كدا،المأمور كَرّهها الدنيا.. إنت عارف ملابسه وملابس أولاده وبناته، وحتى جيرانه. والله أنا شاكة في إنو قاعد يأخد عمولة من الناس في الغسيل.. أمك لو بقيت مكنة غسيل حتنتهي.. ولكن هانت.. باقي لينا كلنا السنة دي بس، أمك باقي ليها ستة شهور، هانت يا ولدي.
    قال له ود أمونة، بصورة نهائية وقاطعة
    - أنا ما عايز ألعب معاك طُرة كتابة.
    - كويس، تعال أديك بُوسة.
    - ما عايز، لا تديني بُوسَة ولا أديك بُوسَة.
    - كويس، لمّان يجي الصول ويشوف الكُباية الكسرتها تعرف حاجة.
    - حأكلم أمي.
    قال الجاويش، طباخ السجن مستهتراً
    - أمك تعمل شنو، خليها تقدر على نفسها.
    ثم أضاف بلين.
    - بطنك بتملاها من وين؟ تعال يا ود أمونة،أديني بُوسَة أو شيل مني بُوسَة زي ما تدور.

    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 15:21

    عندما ينتصف نهار السجن، تسمع طقطقة الزنك كأنها فرقعة عبوات رصاص صغيرة تقدح جماح العرق النسواني التعب المتبل بفطر إبطهن وعاناتهن، رائحة البلاط وزنخ شعر الرأس المُلبّكْ بالأسطبة والجورسي القديم، وطنين الزُبات مختلطاً بقهقهة السجانين، نداء الجاويش المسجوع من حين لآخر
    - مُوية يا بنات الموية.
    أخرجت الشامة مكافأة صغيرة من مطبقتها وقدمتها لود أمونة نظير متعة التفلية وعربون خدمة قد تطلبها منه في يومٍ ما، العنبر الطويل يحتوى على عشرين سيدة، عجوزتان اتهمتا قبل عشر سنوات ماضية بحيازة جوالين من الحشيش، صبية جميلة رقيقة اعتادت سرقة الذهب والمجوهرات، أمه بائعة عرقي البلح وقد ضاعف قاضٍ غيور على الدين العقوبة عليها سبع مرات لأنها لم تقلع عن الفعل الحرام طالما جلدت مراراً، وغرمت تكراراً وسجنت شهوراً كثيرة متفرقات، الشامة اتهمت بقتل زوجها وتقول إنه شرب الصبغة مع عصير البرتقال من تلقاء نفسه غيرة عليها- وأخريات، وأخريات،وأخريات
    ولكن ود أمونة كان لا يهتم بغير واحدة لا يعرف كم عمرها ولا يفهم طبيعة جريمتها، كانت قليلة الكلام، تغني دائماً بصوتها الشجي وتحكي له قصصاً طويلة تقصر عليه الانتظار الطويل بالسجن- ولو أنها كانت تقضي فترات طويلة، مريضة طريحة بلاط العنبر إلا أنها كانت الأكثر مرحاً- هادئة وطيبة لينة وصبور، أمه لا ترغب في أن يتقرب إلى عازة
    - يا ولد أخير ليك تختى ............... دي.
    وذلك أمام عازة مباشرة وفي حضرة من حضر، لا يهم، تضحك عازة وتجلس على الأرض، تطلب مني أن أركب في ظهرها وفي قفزة سريعة أركب، تنهض بي بالرغم من أرجلي الطويلة تجري بي في الفراغ الذي يقع بين العنبرين.
    وعندما دخل الجاويش فجأة المطبخ، ارتبك الطباخ وحؤل أمره إلى ود أمونة بأن يذهب إلى عنبر الرجال ويحضر الأواني الفارغة.
    - بسرعة يا ولد.
    وهرب ود أمونة نحو عنبر الرجال، أدخل هدية الشامة سريعاً في جيبه ثم تحسسها بكف يده اليمنى ليتأكد من استقرارها هناك، باسته على خده قائلة
    - أجري غسِّل يديك، عايز تاكل بيهم كدا.
    عندما يضع هدية الشامة في علبة التوفير مع ما وفره من هدايا المسجونين والمسجونات وحتى الطباخ نفسه والعساكر، يكون قد تمكن من مبلغ لا يعرف قدره ولكنه يزداد يومياً، ببطء،ولكنه لا ينقص، حتى عندما يرسلونه إلى الدكان القريب أو السوق لإحضار تمباك أو علبة سجائر أو ما شابه ذلك ويطلبون منه الاحتفاظ بالباقي، فهو يبخل على نفسه بقطعة من الحلوى الكثيرة الشهية التي تطل عليه من بين الأرفف والطبليات وفي أيدي الأطفال الذين في عمره، كان يعرف أيضاً المساجين الذين في عنبر الرجال، قد تتغير الأوجه يومياً ولكن المساجين الجدد يُعرفون في اليوم الأول لقدومهم، بالاسم والقبيلة والجريمة والمدينة والقرية والشهرة، جمع بسرعة الأواني التي دفع بها السجناء خارج زنزاناتهم أو عنابرهم ثم أخذ ما يستطيع حمله على جسده الصغير ومضى به نحو المطبخ- كان الصول ما يذال هناك، وعندما رأي ود أمونة يترنح تحت ثقل الأواني صرخ في وجه الطباخ،
    إنت عايز تقتل ود المرا دي ولا شنو؟-
    فأسرع الطباخ في تناول الأواني من على كتف ود أمونة وهو يعتذر بهمهمة غير مفهومة.
    قال لود أمونة بود
    يلا أجري العنبر، أمك في انتظارك، تكون جات من الخدمة.-
    قال ود أمونة للشامة
    أنا ماشي لعازة. -
    ردت له في شماتة
    إنت ما عارف إنو دخلوها الزنزانة.-
    عارف ووديت ليها موية قبيل، مسكينة عازة.-
    قالت بصورة حادة
    - ما مسكينة ولا حاجة،عازة دي مجرمة.
    قال ود أمونة مستغرباً
    -مالها، عملت شنو؟ قالت لي هي ما عملت أيّ شئ.
    قالت الشامة
    . لقوا عندها ممنوعات-
    عندها استطاع أن يربط ود أمونة أحداث قبل الأمس، بأحداث يوم أمس بما سمعه اليوم من الشامة.



    عدل سابقا من قبل ساجور2010 في السبت 1 مايو - 15:26 عدل 1 مرات
    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 15:24

    أحداث أول الأمس.
    كانت عازة تحت الحائط الشرقي، لسنا بعيدين عن بُرج المراقبة، حيث كان السجان بريمة بين وقت وآخر يتبادل الكلمات مع العازة وأيضاً السجائر، حدثتني العازة عن أمانة تخصها عند امرأة في الحُمرة بأثيوبيا، وأن المرأة جاءت من هناك، وهي الآن في القضارف ولم تجد طريقة لإحضار الأمانة لها في السجن، لأنها تخاف من البوليس ولها سوابق كثيرة، ثم أضافت ضاحكة
    سُمْعَتها سيئة. -
    أحسَّ ود أمونة حقيقة بارتباك في تفكيره عند سماعه الجملة الأخيرة (سُمْعَتها سيئة)، ولم يفهم لهذه الجملة معنى محدداً ولكنه، ابتسم واقترح في نفسه أن لها معنى مثل جملة الطعام الفاسد، تجاوز ذلك، أو لم يستطع أن يتجاوز ذلك، قلت لها
    - يعني مالها؟!
    قالت له
    - يعني!!
    و أحنت رقبتها الطويلة بطريقة عقدت المعنى، ثم أضافت
    - سجنوها كم مرة.
    - زي أمي كدا
    قالت بسرعة
    - أمك مسكينة ما عندها حاجة غير عرقي بلح بس ولكن القاضي قاصدها.
    قذف بريمة للعازة بعلبة سجائر برنجي، سقطت على حجرها مباشرة، وعندما نظرت إليه غمز لها بعينه اليُسرى، فضحكت وضحك، ضمتني عازة إلى صدرها بشدة إلى أن شممت رائحة إبطها وقالت لي هامسة:
    - تساعدني يا ود أمونة.
    - كيف؟
    - تجيب لي الأمانة من ألم قَشي؟
    - ألم قشي؟
    إنت ما قلت لي مرا من الحُمرة.
    - أيوه، إنت ما عارف إنو ألم قشي من الحُمرة؟
    أضاف في استسلام
    - وين ألاقيها؟
    قالت وهي تحك بأظافرها سيخ الباب
    - في موقف الشُواك.
    - وكيف أطلع؟
    قالت لي مبتسمة
    - ساهلة، لما يرسلك الطباخ للسجائر زي كل يوم، تقوم جاري لموقف الشواك وتلقاها هناك منتظراك، الكلام دا بعدين، بعد صلاة الضهر. زي كل يوم.
    - لو ما رسلني الليلة؟
    قالت بثقة
    - حيرسلك، دَخِّلْ الأمانة هنا.
    - وين؟
    - هنا، هنا.
    ولا يدري، أحدث هذا صُدْفَة أم عِنيّة، ولكن استقرت كفها هنالك لوقت خبيث لا بأس به، وقبل أن تشرح له أكثر قرصته برقة فيه، رقة وحشية غامضة، رقة أكثر.

    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 15:34

    ما حدث بالأمس.
    اعتاد ود أمونة أن ينام مع أمه في ذات السرير، أو هي كانت تصرّ على ذلك، ربما خوفها الشديد عليه له ما يبرره، خوفها من الجميع دون فرز، مسجونات ومسجونين، سجانين وعمال سجن، لم يكن هو الطفل الوحيد الذي في صحبة أمه بالسجن، بل كانت هناك ثلاث طفلات، ولكنهن رضيعات ولا يعرفن شيئاً، بل لا يمكن اصابتهن بمكروه ظاهر، لكن طفلها، ود أمونة، طفل التاسعة في خطر دائم من الجميع، لأسباب أهمها أن لإبنها جسداً أكبر من عمره وأنه رغم البؤس وسوء الطعام مع قلته، له جسدٌ سمينٌ وساقان طويلتان مما يجعله أكبر من عمره بكثير، وإذا أضافت إلى ذلك وسامته، فإن الأمر يبدو واضحاً وجليا.ًأمه، تعرف أن الطباخ منحرف، وأنه يتقرب إلى إبنها وقالت لنفسها
    - إذا لمس الولد ده لمسة، لمسة حأكتلوا كتلة يتحدث بها الناس إلي يوم القيامة ولكنها تخاف عليه أيضاً من النساء ولو أنه لم يبلغ الحلم بعد ولكنها تعرف أنهن يعرفن كيف يستخدمنه.
    ولقد خاطبتهن على ملأ
    - أسْمَعنْ يا ................ هيييي، اليوم الألقى فِيهُ ولدي دا مع واحدة، حأرسلها الآخرة.
    ضحكن؛ غِظنها بقولهن إنهن سيفعلن، وإنها فرصة له ليتدرب، ولكنهن في باطن عقولهن،كن يعرفن أنها جادة في قولها وأنها ستفعل.
    عندما استيقظت أمه استيقظ، في الحق استيقظ العنبر كله على جَلَبَةِ مصدرها عراك في عنبر الرجال، السبب البنقو.
    - البنقو؟
    وكعادة السجانين أنهم يتبعون أقصر الطرق للحصول على الحقيقة وهي الضرب المبرح والقرص بالزردية، لذا لم يستغرق الأمر طويلاً، جاء جاويش يُسمى غلبة إلي عنبر النساء، أمسك بيد عازة، أوقِفَتْ، ثم صُفِعَتْ في وجهها بكف كبير قبل أن يقول لها غلبةُ:
    - أرح وراي.
    قال ود أمونة للشامة وقد استدرك الأشياء كلها، وربط بينها
    - البنقو، مش كدا.
    قالت له الشامة
    - أيوه، البنقو.
    سألها
    - جابته من وين؟
    قالت له
    - أبت تعترف.
    قال خائفاً
    - وإذا دقوها حتعترف؟
    قالت له
    - هم ضربوها ولكن العازة عنيدة، ولو كتلوها ما حتعترف.
    جلس عند باب الزنزانة، كانت يدها على يده بين السيخ، قوية وواثقة ودافئة، كانت أثار الضرب واضحة على وجهها، اعتاد ود أمونة على هذه المناظر وما عادت تؤلمه كثيراً، فقد رأى أمه مراراً بوجه متورم وظهر متقيح بل شاهد ذات مرة غلبة يتحرش جنسياً بوالدته وعندما أبعدته عن نفسها، قام بصفعها في وجهها عدة مرات.
    قال بصوت ضعيف مرتجف
    - حيقبضوني
    ضحكت العازة مؤكدة له أن الشئ الذي أحضره من ألم قشي ليس هو البنقو ولا شئ ممنوع وفتحت له كيساً كان قربها وأخرجت من لفافة، هي ذات اللفافة التي أحضرها، مدتها له قائلة
    - افتحها.
    أبعد يديه في خوف
    - لا.
    - أقول ليك شوف فيها شنو، عشان تتأكد.
    وعندما رفض وحاول أن يهرب، قامت بفضها، فلم يكن بها سوى قطن طبي-
    قالت له
    - قطن، قطن تحتاج ليه النسوان، وهو ممنوع في السجن لأن المساجين بيعملوا منه قنابل بالبنزين.
    لم يقتنع ود أمونة ولكنه أحس براحة نفسية عميقة، قالت له
    - أنا ما بعت أي بنقو للمساجين- ولا يحزنون- وما تخاف عليّ ولا على نفسك-

    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 15:41

    قبل غروب الشمس بقليل جاءت أمه، كان قد استحم وغسل جُلبابه الآخر وحذاءه البلاستيكي وانتظرها راقداً على السرير، كاد أن أن ينام، رمت عليه كيساً صغيراً به تفاحة وقطعة حلاوة المولد، ورغيف وطحنية.
    - الليلة اشتغلنا غسيل في بيت المأمور، غسلنا ملابس ناس الحلة كلها.
    (-------) -
    قالت له أمه في حنية وهي تمسح رأسه بكفها
    - كنت وين بالنهار؟ رسلوك للدكان والسوق؟
    - غسلت العدة للطباخ واتونست مع عازة، لو شفتي يا أمي دقوها دق.
    قالت أمونة جملة واحدة ورمت بنفسها على السرير قربه
    - تستاهل.
    - ليه يا أمي؟
    - البت دي قليلة أدب شوية- الوداها تبيع البنقو شنو؟
    قال دون تركيز
    - يا أمي هي عندها قطن مش بنقو
    قالت مستغربة
    - قطن شنو؟ في قطن يبيعوه؟
    - والله أنا شُفتُهُ.
    - إنت ما عايز تختى الزولة دي، أنا مش قلت ليك ما تكون معاها.
    سكت ود أمونة قليلاً، بدأ يقضم جزءاً كبيراً من التفاحة، أكلها باستمتاع ظاهر، قال
    - كل يوم جيبي لي تفاحة.
    - كويس.
    عندما نامت أمه، أخذ ما تبقى من الكيس ومضى نحو الزنزانة كان الظلام قد بدأ يهبط ولكن الإضاءة الضعيفة عبر الممر دائماً ما تمكنه من التجول بسهولة في أنحاء السجن، كما أن الحرس قد اعتادوا عليه ولا يعترضون تجواله بل يرحبون به ويداعبونه ويرسلونه، على كلٍ، هو شخص محبوب هنا، رفضت العازة في بادئ الأمر، تناول ساندوتش الطحنية الذي مده إليها ود أمونة، ولكنه عندما بدأ يبكي، أخذته منه، كانت جائعة جداً وبدت له شاحبة وهزيلة وأظهرتها الإضاءة الباهتة مثل شبح كبير حقيقي، ولكن كفها الدافئة تؤكدها باستمرار وتسري في نفسه بهجة وحباً، لأول مرة تسأله عن والده، قال لها
    -أمي قالت لي أبوي يمني، وقالت رجع اليمن، كان عنده دكان في الحلة، عرس أمي وطلقها.
    - ما عندك أخوان تاني.
    - لا، أنا وأمي بس، أهل أمي في البلد
    -وين بلدكم ؟
    - والله ما عارفها، أمي قاعدة تقول البلد، والبلد دي وين؟ أنا ما شفتها.. أنا ولدوني في (الحلة) وما مشيت أي مكان تاني غير جينا هنا القضارف في السجن، دخلت مع أمي كتير.... قالوا من ما كنت برضع، ولكنها طلعت ودخلوها تاني
    - أنا حأطلع قبل أمك.. لو أمك وافقت حآخدك معاي أنا عندي أهل وأسرة في القضارف هنا.. تعيش معانا في البيت لحدي ما تطلع أمك من السجن: كويس؟
    قال لها في يأس
    - أمي ما بتقبل.. لو علي أنا... حأمشي معاك طوالي .
    حأحاولها، إن شاء الله تقبل... إنت لازم تمشي المدرسة. هسه عمرك كم؟ -
    - تسعة سنين.. ما حيقبلوني في المدرسة؟ أنا حأمشي اشتغل مع الميكانيكيين عشان أطلع سواق وميكانيكي.
    قالت بصورة مؤثرة
    - لأ.. حتقرأ وتطلع دكتور.
    قَدّمَ لها قطعة كبيرة من حلاوة المولد وهو يضيف
    - وأمي قالت بدون شهادة ميلاد مافي ليّ طريقة.
    قالت وقد رأى بريق عينيها عبر ضوء الممر الخافت
    حأطلع ليك شهادة تسنين، وحأدخلك المدرسة.. أنا بعرف مدير مرحلة الأساس، قاعد يجي بيتنا في القضارف، وبعرف الزول البيطلع شهادات التسنين، ما عندك أي مشكلة، بس كيف أمك توافق
    مرّ بهما جاك طويلة، وهو شرطي نحيف طويل اسمه علي، يعرفونه بالجاك طويلة، شخص مرح ويعرف بأنه متدين، ودائماً ما يؤم السجانين في الصلاة، قال مخاطباً عازة
    - لقيتي زول تتونسي معاه.
    ردت عليه عازة
    - الله كريم.
    قال وهو يمسك باب الزنزانة
    - لاقيت أبوك اليوم الصباح.
    - طبعاً ما سأل مني.
    - قاللي لو طلعتوها من السجن، أخوانها حيقتلوها. أخير تكون قاعدة معاكم.
    قالت بإصرار
    مافيش زُول يقدر يقتلني.. والراجل يمد إيدو علي، وأنا حأطلع بعد شهر. ونشوف: الحشاش يملأ شبكته.
    قال وهو يحملق في وجهها الذي ألصقته بسيخ الباب،
    - سافري من البلد، أمشي أي مكان تاني تعيشي فيهو، وإنت زولة متعلمة.. وعندك مهنة .
    قالت محاولة أن تبتسم
    - الغُنَا دا كمان مهنة ؟
    - لييه؟؟ الفنانين ديل دخلهم دهب.
    - أنا حأشتغل أبيع شاي،، وفي القضارف،، وعارفه ما فيهم واحد راجل يقدر يلمسني كان أحمد ولا الصادق.
    قال لها مغيراً مجرى الحديث
    - المإمور قال بكرة حيطلعك من الزنزانة للعنبر، ولكن حيكتبك إقرار عشان ما تقومي بأي عمل إجرامي هنا في السجن.
    قالت
    - رَبُنَا أحسن منه .
    قال ضاحكاً
    - إنت بس لو ختيتي بنات حي فوق ديل، مافي حاجة تجيك.
    قالت بضيق
    - أنا يا مولانا ما عملت حاجة، يعني شنو لو لقوني في بيت عزابة؟ ولييه ما سجنوا العزابة؟؟
    قال
    - العزابة هربوا.
    قالت بمرارة
    - كلهم معروفين.. وقاعدين في القضارف، ولو عايز هسه أرح أمشي معاي أسلمك ليهم واحد واحد..... ومنو القال ليك هم عزابة؟
    قال في صوت خفيض
    - دي مسئولية المباحث والتحري والقاضي، أنا زول شغال في السجن هنا، يجيبوا لي أحرس،، ما جابوا... ما عندي غرض بزول.
    أيضاً لم يفهم ود أمونة ماذا يعني أن يقبضوا على امرأة إذا دخلت بيت (عزابة) اعتبر ذلك مثل الطعام الفاسد أيضاً.

    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 15:57

    عندما مضى جاك طويلة جلست معطية ظهرها للباب الحديد،وخلف السيخ كان ود أمونة يمشط شعرها بخلاله وهي تغني بصوت شجي عميق:
    من طرف الحبيب جات أغرب رسايل
    يحكي عتابُهُ فيها
    قال ناسينُهُ قايل
    قال ناسينُهُ قايل
    هذه الأغنية لا تعجبه، تعجبه أغنية
    ما هي دنيتنا الجميلة
    شوفو دنيتنا الجميلة
    بأزهارها بأشجارها ونخيلها

    غنتها له، عندما دقّ جرس النوم، أي دوي الطرق على القضيب المعلق وسط السجن معلناً أن الساعة الآن التاسعة مساءً، تلمس ود أمونة الطريق نحو عنبر النساء، وهو في الطريق، لأول مرة يفكر في شيئين: أبوه والمدرسة.
    وهما شيئان ما طرقا باب مخيلته من قبل، هو لم ير أباه في يوم ما، ولا حتى صورته بل لم تحدثه عنه أمه إطلاقاً، وما قاله للعازة ليس سوى بعض مما سمع من حديث لأمه مع جارة لها، قبل أعوام كثيرة ولم ينسه، أعمل فيه بعض الخيال وقاله لها.
    أما المدرسة فلم يفكر فيها، كأنما هي شئ لا يعنيه على الإطلاق، وهي حلم كبير لا تسعه مخيلته، فقد دخل السجن في هذه المرة الأخيرة مع أمه منذ سنتين، أي أنه كان في الثامنة من عمره وهو العام ذاته الذي التحق فيه أنداده من أطفال الجيران بالمدرسة، فهو لم يرهم يذهبون إليها ولا يعرف عنهم شيئاً منذ عامين، مازال يتخيلهم يلعبون في الخور وعند الماسورة المتعطلة أو يصطادون الطيور، الفراشات، الجراد والفئران، أو يلعبون دكاتره وممرضات مع البنات اللائى في أعمارهم، يجرون بترتاراتهم، يركبون الحمير السائبة وفي موسم الصمغ يذهبون إلى زريبة المحاصيل لخطف الصمغ من الحاجات وعند العصر يلعبون حرب حرب، ضد أولاد الحي المجاور، أما أن يذهبوا إلى المدرسة، فهذه فكرة لا يعرف إليها سبيلاً.
    وجد أمه ما تزال نائمة ويعرف أنها لن تستيقظ إلا عند صلاة الصبح حيث يصلي جميع المسجونين في العنابر صلاة جماعية إجبارية في الميدان وسط السجن، الرجال في الأمام والنساء خلفهم، ود أمونة وحده خلف النساء، قرر بينه وبين نفسه أنه بعد صلاة الصبح سيسأل أمه عن أبيه ويطلب منها أن ترسله إلى المدرسة، وعندما نام، حلم بأنه ذهب إلى المدرسة، كان يحمل حقيبة كبيرة فارغة، قابله مدير المدرسة وهو طباخ السجن ذاته، ملأ له الحقيبة بالكتب والكراسات وقدّم له حَلَّة كبيرة مملوءة بالعدس والطحنية، وقال له
    - خذها إلى العازة، وقول ليها دي جنازة أبوك.
    فَجَرّ الجثة خلفه عبر ممرات الزنازين إلى أن أوصل الفرس(تحولت الجثة إلى فرس) إلى عزة، ركبا الفرس ْ وهربا بعيداً، كان الأشرار يطاردونهما عبر النجوم والغابات، ولكنهما مضيا على متن سحابة كبيرة ممطرة إلى الأعلى.. الأعلى... الأعلى... الأعلى.
    حدثهم جاك طويلة عن عذابات يوم القيامة، كأنما كان يخاطبهم فرداً فرداً، عذاب السارق، عذاب القاتل، عذاب اللو.....، عذاب الشر......، عذاب صانع الخمرة، شاربها، مناولها، بائعها، ناقلها المنقولة إليه، عذاب من لم يطع الحاكم،السياسي، عذاب من يهرب من العدالة، من يحرض على الهرب، الكاذب، الغاضب، الذي يموت وفي عنقه دين، المتمرد، الزاني، المزور، الذي لا يصلي، من أفطر في نهار رمضان، ثم تحدث عن عذاب الكافر وذكر تحت هذا المسمى:
    الشيوعي،
    والشيعي،
    والمسيحي،
    واليهودي،
    والوثني،
    والأمريكي،
    وناكح الفرجين،
    وناكح الرجل،
    والرجل المنكوح،
    الساحر، تارك الصلاة،
    والخنزير، شجرة الزقوم
    وآكل الخنزير، وآكل الزقوم
    وقاتل النفس البشرية ولكن بغير حق.
    وآكل مال اليتامى
    ولكي لا يغلق الباب الذي فتحه الله للإنسان، أكد أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له،
    (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) اذهبوا إلى عنابركم.
    قال لأمه وهو يُمسك بثوبها لكي تقلل من سرعتها، حيث أن الجميع يهرول من ميدان الصلاة هرولة الى العنبر،ليكملون نومهم.
    أبوي وين؟ -
    قالت مندهشة وهي تقف فجأة وتنظر إليه في استغراب كأنها تراه لأول مرة في حياتها.
    - الليلة من وين طريت أبوك؟ بسم الله الرحمن الرحيم.
    - بس عايز أعرف.
    - أبوك في اليمن... طلقني ومشى اليمن، وإنا لسع ما ولدتك.
    - مش حايجي تاني؟
    أجابت متسائبة
    - أنا نعسانة و عايزة أنوم. -والله ما عارفاهُ، لمّان تكبر تمشي تفتش عنُهُ في اليمن، كويس؟
    صمت قليلاً ثم قال
    - أنا عايز أخش المدرسة.
    - يا ولد، إنت جنيت؟ الليلة مالك؟ من الصباح دا قايم عليّ... كدي قول بسم الله الرحمن الرحيم، وخلي الشمس تطلع، إنت قايل المدرسة دي ساي كدا.. حتقعد مع منو؟ حتأكل من وين؟ والرسوم والكتب.... وشهادة الميلاد.... زول شهادة ما عنده؟؟؟؟!
    قالت بطريقة وكأنها تحمله المسؤولية كاملة، هي عدم امتلاكه لشهادة الميلاد، ثم أضافت برقة.
    - كدي خليني أطلع من السجن وأشوف لي شُغل، إن شاء الله فراشة بعد داك أدخلك المدرسة.
    قال لها وهو يمسح وجهه بظهر كفه
    لمّان تخرج عازة من السحن بعد شهر أنا حأمشي معاها، هي حتدخلني المدرسة-
    - هي قالت ليك كدا؟
    رد في تردد
    - أنا قلت براي .
    قالت بصورة قاطعة لا تخلو من الحنق
    - حنطلع من السجن دا أنا وإنت في لحظة واحدة: سوا سوا،
    شيطان ما حياخدك مني.. إنت ولدي أنا.... ولد أمونة: فاهم.
    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 16:07

    بَيَتُ الأم
    جميعهم رجال، تهتف رائحة العرق المشوي بشمس الدَرَتْ الحارقة، شمس سبتمير، تملأ الأنوف زنخاً لا يُحتمل. الجَنَقُو يتشابهون في كل شئ، يقفزون في مشيهم كغربان هرمة ترقص حول فريستها، يلبسون قمصاناً جديدةً، ياقاتها تحفل بالأوساخ التي عمل العرق وعملت الشمس وريح السموم، التُربة الطينية السوداء على جعلها شاهداً على صراع مرير مع المكان والطقس، يفضلون الجينز ذي الجيوب الكبيرة والعلامات التجارية البارزة، المكتوبة بخطوط كبيرة مثل: كونز، وانت، ديوب، لي مان، ونستون وغيرها، لا يعرفون ماذا تعني، لكنها تعجبهم ويفضلونها على غيرها، ويدفعون لأجل الحصول عليها مالاً سخياً، يحيطون خصورهم بأحزمة الجلد الصناعي، فتبدو هيئاتهم كمخلوقات غريبة لا تنتمي للمكان، لكنها تقلد كل شئ فيه بالأخص كُلّيقَةْ السمسم المحزومة جيداً، أحذيتهم التي كانت جديدة، لامعة وأنيقة في أوآخر ديسمبر الماضي، الآن هي ذكرى تلك، مزق متسخة ذات أخرام ولون يصعب تحديده في الغالب، لا يهتم أحد بتهذيب شعر رأسه، فيما بعد حدثنا ود أمونة بأن عاناتهم كثة وأنهم يهملونها، يتركون شعر رأسهم الذي يميل للحمرة من فعل الشمس كثاً متشابكاً قصيراً أو طويلاً في مستعمرات للشرا، للجنقاوي أو الجنقوجوراى عدة اسماء على مر السنة وشهورها و فصولها:
    فهو كَاتَاكَوْ، في الفترة ما بين ديسمبر إلي مارس حيث يعمل في مزارع السكر بكنانة، ومصنع سكر خشم القربة، عسلاية أو الجنيد.
    ويُسَمى فَحْامِي، في الفترة ما بين أبريل إلى مايو حيث يعمل أم بحتي؛ أي منظفاً للمشروعات الجديدة أو المهملة من الأشجار، ويصنع من سُوقها وفروعها الفحم النباتي.
    ويُسَمى جنقو أو جنقوجورا، في الفِترة ما بين يونيو وديسمبر، أي منذ هُطول الأمطار، إلى نهاية موسم حصاد السمسم. أما خلال السنة كلها فتطلق عليه النساء إسم فَدّادِي. وبالمقابل يُسَمِي هو النساء اللائي يصنعن المريسة والعرقي فداديات، وعرفنا أيضا من بعض الجنقو الذين اتوا من الفاشر و نيالا، أنّ اسم الجنقوجورا هو المستخدم عندهم، للدالة على ما نُسميه نحن في الشرق إختصارا جنقو، بالتالي لا يطلقون لفظ جنقاوي للمفرد كما نفعل، بل جنقوجوراى.
    هي ليست المرة الأولى التي نصطحب فيها بعضنا، أنا وهو، إلى مكان لا نعرفه ولن تكون الأخيرة، فمنذ أن طُردنا من وظائفنا للصالح العام، قبل خمس سنوات، تجولنا كثيراً في شتى بقاع السودان، شماله، جنوبه، غربه وشرقه، كان هو من أسرة ثرية، ويحتفظ بمال كثير لنفسه يمكنه من أن يتفرغ بقية حياته كلها للجري وراء متعة المشاهدة، كما أطلقنا على ما نقوم به من (تِسِكِع ْ وتِلِكِعْ) في بلاد الله الشاسعة. أنا فقير. لكني عازب ولا أتحمل مسؤولية أحدٍ غير نفسي، أخواني وأخواتي متزوجون، بعضهم خارج السودان، والبعض الآخر في الداخل، واتخذوا طريقهم المحتوم في الحياة، أمي وأبي متوفيان، هو يساعدني كثيراً في تحمل مصاريف السفر ومتعة المشاهدة، وأنا أوفر له الرفقة الطيبة، ويقول الناس عندنا: الرفيق قبل الطريق.
    دندن في صوت مرح
    - رجال... رجال... نحن في حلم؟
    قلت له
    - أنا شفت واحدة قبل شوية .
    يبدو أن الرجل الذي يجلس قربنا، الوسيم، الذي يحتسي قهوته، لم يكن منشغلاً بموضوعات الحصاد، الربح والخسارة، العنتت و القبورالكعوك وطيور أم عويدات وود أبرق، كما هو الحال عند الجميع وبمن فيهم صاحب القهوة البدوي الشاب كث الشعر، أو بما تقدمه له رشفات القهوة من متعة تبدوعظيمة، كانت أذنيه تتصيد ما نهمس به، ربما ما نفكر فيه أيضاً، قال لنا دون مقدمات، بحماس عالٍ ساذج
    - إنتوا ما مشيتوا بيت الأم، معقول؟! لازم تمشوا بيت الأم.
    قلت: أم منو؟ بيت الأم؟
    قال : أم الناس كلهم. نعم، بيت الأم.
    سأله : بيت الأم؟
    قال: أيوه، بيت الأم.
    ثم أضاف باللغة التجرنة، وكأنما نحن نعرف كل لغات الدنيا : قَذاَ أَدَّيْ.
    نهض مع آخر رشفة من قهوته، نهضنا خلفه، كان وسيماً متوسط الطول، له بشرة لامعة صفراء وشارب كث، شعره منسق وحديث الحلاقة، يبدو أن اهتماماً خاصاً قد صُب عليه، تتبعه رائحة طيبة ميزنا ماركتها بسهولة، كان شخصاً لا يشبه شخوص المكان، نظيفاً، أنيقاً، به ليونة بادية للعيان، في مِشيته وطريقة كلامه ووجهه النظيف
    قال هو ينظر إليّ
    - أنا اسمي ود أمونة.
    ابتسم وهو يضيف
    - اسمي كمال الدين، لكن مافي زول يعرف كمال.. أمي أمونة. وهي تقول لي ود أمونة الناس لقوا الاسم سهل، يلاّ... ود أمونة... ود أمونة. الناس يوم القيامة ينادوهم باسم أمهاتهم.
    قال له
    - مافي مشكلة الأم مافي زيها، يا ريت لو نادوني باسم أمي، كنت حأكون أسعد زول.
    قال له ود أمونة فجأة
    - أمك اسمها منو؟
    - أمي مريم.
    - وإنت؟
    قال مخاطباً إياي
    - زينب، زينب أبّكَرْ
    قال
    - أمي اسمها آمنة، ولكن اسم الدلع أمونة.
    وسألته
    - إذن بيت الأم دا.. بيت أمك أمونة.. مش كدا؟
    قال نافياً بشدة
    - لا، بيت الأم دا بيت الأم، قربنا نصل.
    ثم أضاف
    - إنتو من وين؟
    قلنا معاً بصوت واحد
    - من القضارف
    صمت صمتاً طويلاً ثم أصدر هواءً من فمه بصوت محسور.
    - سجن القضارف... شفتوا سجن القضارف؟ بالتأكيد تكونوا شفتوه، مش كدا؟! في ديم النور.
    رد عليه
    - بالتأكيد... في زول في القضارف ما شاف السجن؟
    قال وهو يخطو بنا خطوات سريعات في عمق المكان
    - . أنا اتربيت فيهو
    كان يسحبنا من بين قطاطي ورواكيب القش في أزقة طويلة لا تنتهي تتلوى كالثعابين، صاعدة هابطة على أرض وعرة عليها أخاديد صنعتها الوابورات واللواري وعربات الترحيل الخفيفة مثل اللاندروفرات والبربارات، تعم المكان رائحة البخور مختلطة بعبق المريسة، وبعض الخمور البلدية، على خلفية من ريح فاترة تهب جنوباً، دافئة وطيبة
    دون أن نطرق باباً من الزنك على سور من القش والحطب، دخلنا بيت الأم أو كما يطلقون عليه بالتجرنة: قَذَاَ أَدَّيْ.
    ألم قِشي
    - عَلَّمَنَا هذا المكان قيمة العمل
    قالت لي بالتجرنة المرأة النحيفة المتوسطة الطول، وهي تعبث بقدر عليها ماء على موقد صغير، ثم أضافت باللغة العربية، لغة الحدود.
    - راجلي ضعيف زيك.
    رفعت عينيها إليّ وكأنها تريد أن تتأكد من موقعي في القطية
    - بالله، راجلك؟ عندك راجل؟
    كان تعليقي محرجاً، وأحسست بمرارة ذلك في حركة سريعة قامت بها، حركة غير مخطط لها، عندما أتى صوت جميل يغني في الخارج، قالت منادية
    - يا ود أمونة، عليك الله تعال دقيقة
    دخل ود أمونة، أنيقاً ووسيماً كما هو، في جُلباب أزرق نظيف، حياني قائلاً
    - كييف؟
    - تمام.
    ثم نظر إلى المرأة فأجابت
    - . عليك الله ظَبِّتْ الشِيشَة لصَاحِبَكْ دا
    سألني وفي فمه ابتسامة كبيرة
    -عادي ولاّ تُفاح؟
    - عادي.
    - عليها شُوَيّةَ سيجارة خضرا؟
    - لا، مُعسل بس
    أضاف ولمّا تفارقه الأبتسامة بعد
    - عندنا حبشي وإريتري برضو، وأبو حمار.
    - . شنو الحبشي وشنو الإريتري وطبعاً أبو حمار معروف.
    قال مندهشاً
    - الجن والكونياك
    قلت ضاحكاً
    - بعدين، بعدن... شكراً يا ود أمونة.
    خرج يتبعه عطر فهرنهايت مُدهش، قالت بفخر
    - ولد ممتاز.... اتربى هنا معانا في بيت الأم.
    قلت لها مراوغا
    - ولكنه قال لينا أنا اتربيت في سجن القضارف.
    قالت مجيبة
    - صاح، لمّان كان صغير، دخل السجن بيرضع، ودخله بيمشي، وطلع منه مراهق، الذنب ذنب أمه أمونة، ومن ما طلع من السجن دخل بيت الأم هنا،
    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 16:27

    وفي هدوء النسيم دخل ود أمونة، وضع الشيشة أمامي في أدب جم وخرج دون أن يقول شيئاً، أضافت ماءً نقياً للقدر الكبير، هدأ فورانه، أخذت تجمع حاجيات القهوة من مكان خارج القطية، لم اعتد لباس الملاءة، لونها أبيض، مما أظهرني كحاج تعب أرهقه التطواف، أعرف أن صديقي قد يفعل في ساعة ما سوف يقوم بفعله شخص مثلي في يوم كامل، أعرف عنه أن ما من غامض يقف أمامه، أنه مغرم بفض غموض كل شئ، امرأة، حجرة، كل شئ، لم أشغل نفسي كثيراً به، الزقني الذي أحبه، بالشطة الدليخ أكلته بـ(القِيِّحْ بَربَري) لذيذاً طاعماً كان عبق قلي البن الحبشي، أثار فيّ ذكريات كثيرة كثيرة وفيما بعد ارتبط عندي بصورة مدهشة بكل ما يخص علاقتي بـألم قِشي.
    كنت تعباً ومرهقاً كحمار عجوز. السفر إلى (الحلة) بالمواصلات العامة وخاصة على ظهر (البربارا) يعتبره البعض نوعاً من الانتحار والمغامرة، و على أقل تقدير الطيش.
    - الناس البعرفوا البلد دي، بيركبوا البص، البص أضمن وأسرع، البربارا موت أحمر عديل.
    كانت تدلك ظهري بخليط من الحنظل،دهان أبي فاس، زيت الزيتون وعجين القمح، تتحدث بصورة مستمرة عن المكان والزمان وأديّ وود أمونة، البنك الذي سوف يفتح فرعاً في الحلة، شركة الاتصالات التي ستجعل الحلة قريبة جداً من العاصمة الخرطوم، بل يمكن الاتصال بأسمرا أو أديس أبابا حتى أمريكا ذاتها، كانت تقول عن ود أمونة إنه الرجل الوحيد والذراع الأيمن للنساء، هنا بالبيت، وفيما يشبه تقريراً قصيراً مقتضباً أفضت إليّ بأسرار المكان كلها، كانت ما فوق الثلاثين بقليل، تبدو عارفة بالحياة، خبيرة في كل شئ، تحيط بها هالة من القداسة، أو كما يبدو لي، مثلها مثل كل النساء جميلة وغامضة، و لديها ما تقدمه، وجهها يخبئ فرحة أو حزناً أو أنه يفصح عن الاثنين معاً في آن واحد. بحرفية وبراعة، سحبت رجلي اليسرى عكس دوران الساعة، ثم جذبتها إلى الأعلى في ذات اللحظة التي تناولت فيها يدي اليمنى جذبتها إليها بقوة، مما جعل جسدي يصدر صوتاً بائساً مثل كسر فرع لوسيانا يابس إثر ريح قاسية، ولو أن الأمر لم يتعد عدة ثوانٍ لصرخت. عندما تركتني، كنت أنعم براحة جسدية لا توصف وخدر لذيذ قالت لي فجأة:
    - أنا ماشة البيت؟
    قلت
    - البيت؟
    قالت
    - أيوة.
    ثم أضافت
    - بشتغل هنا مع أدىّ ولكن أنوم في بيتي، عندي أولاد وراجل هناك، ثم أضافت بحرفية
    - عايز واحدة تنوم معاك ؟
    في الحقيقة لم أكن متأكداً من هذه الرغبة، حيث إنني والحق يُقَال لست ميالاً للممارسات الجنسية، وربما لم أفعل هذا الشئ سوى مرات قليلة في حياتي وبصورة استطيع أن أسميها غير كاملة، بل أن ذكرياتي في ذلك الشأن مؤلمة، وستعيد لي ذكرى حكاية سيحكيها لي ود أمونة فيما بعد، عن علاقة له غريبة بسجينة تسمى عازة، أظن أنني كنت خجولاً عندما يتعلق الأمر بالمرأة ولكن فاجأت نفسي بالرد.
    - عايز.
    أجابت وكأنها تعد الإجابة مسبقاً
    - ألم قِشي. ألم قِشي حتجي تنوم معاك الليلة، فاليوم هو يوم عملها، بت ظريفة وحلوة وحتعجبك.
    ربما أرادت أن تقول شيئاً آخر عندما اقتحم صوت أديّ الأم هدوء المكان، كان صوتاً متميزاً حاداً، به رقة طاغية وربما سببها الطريقة التي تختتم بها الجُمل القصيرة، التي تلقي بها هنا هناك، استأذنت للدخول وتحدثت إليّ مباشرة
    - صَاحِبَك دا أغرب زول في الدنيا.
    لم أفاجأ لأنني أعرفه جيداً، هي لم تكتشف قارة جديدة، كما تشير الطريقة التي أعلمتني بها، قلت ببرود لم يعجبها كثيراً وربما أثار دهشتها لبعض الوقت
    - أيوا، هو أغرب زول في الدنيا، عايزاني أمشي معاك ليهُ؟ ولا تجيبيهُ لي هنا؟ حيكون عمل مشكلة، أنا عارف.
    قالت بطريقة استعراضية
    - طردناهُ.
    قلت منزعجاً، حيث إنني لم أتوقع أن يُطرد.
    - ليييييه طردتوه؟ وين هو حَسّعْ؟
    بينما كنت أجمع حاجياتي وأتحرر من الملاءة البيضاء، تأهباً للخروج، كانت الأم تحكي لي قصة لم أسمعها جيداً، لكنني فهمت منها أنه طُرد قبل ساعتين كاملتين وأنه لا يمكنني معرفة مكانه إلا إذا مضيت خلفها وبسرعة و الآن.
    - ليه ما قلتي لي من بدري، بعد ساعتين؟
    قالت وهي تأخذ نفساً طويلاً من الشيشة
    - كنا نحاول نعالج الموضوع.
    تناولت خرطوش الشيشة بطريقة تلقائية
    قلت منزعجاً وقد تحررت من الملاءة تماماً
    وين هو هَسَّعْ؟ -
    قالت وهي تطلق هواء الشيشة بعيداً في شكل دوائر صغيرة تتلاشى تدريجياً في فراغ القُطِية.
    - أرح، تعال وراي.
    انتعلت حذائي و بالتالي أصبحت بكامل هندامي، لم أكن قلقاً ولو أنها ألمحت ليّ بأنهم قد يقتلونه ويتخلصون من جثته في نهر بَاسَلام، إلا أنني أعرف أن لا أحد على الأقل بالحلة يستطيع أن يقتله، فهو من أولئك القِلة الذين لا يخطر ببال أحد أنهم سيموتون قريباً، بل دائماً ما يعطونك إحساساً بأنهم سوف يسيرون في جنازتك، يحفرون قبرك ويشيلون الفاتحة على روحك، متنطقين بابتسامة حزينة طوال أيام الحداد. مررنا أولاً أمام راكوبة صغيرة مضاءة بمصباح كهربائي يرسل ضوءاً ضئيلاً حوله، ولكنه يظهر بوضوح ود أمونة، يجلس على بَنْبَرٍ كبير متسع وهو يدلك قدميه بحجر خشن يستخدم لتنعيم القدم، تقف خلفه امرأة في عمر أديّ تقريباً، أربعينية طويلة ذات بشرة بُنِية تبدو داكنة بتأثير الإضاءة، ولكن ملامح وجهها تدل على أن لونها يميل إلى الإصفرار، كانت تستخدم الحلوى في التقاط الشعر من على ظهره، يتحدثان بصوت خفيض، توقفا عن الكلام تماماً عندما مررنا بهما، أنا وأديّ، خاطبتهما أَدْيّ بمرح
    - الولد دا شايلنُهُ الدلالة؟
    ردّ ود أمونة ضاحكاً
    - النظافة من الإيمان يا أديّ.
    (بيني وبين نفسي قدرت أن ود أمونة ولد ما نافع، زول يشيل جسمه بالحلاوة، ويكرش رجله زي البنات بالحجر؟ وما معروف تاني بيعمل شنو، الله يعلم.)
    عندما ابتعدنا قليلاً عنهما، قالت لي أديّ وكأنها قرأت ما يدور في خلدي
    - ود أمونة دا أرجل زول في الحلة، أنا ربيته في يدي دي، تربية أديّ مية مية.
    قلت لها محتجاً
    - قال لي بلسانه إنه اتربى في السجن.
    قالت ببرود
    - سجن شنو يربي زول؟! أنا استلمته لا خلقة ولا أخلاق، ببصلة ما بينفع.
    هززت رأسي إيجاباً ومضينا عبر طريق ضيقة تمر خلف القطاطي المثيرة الكبيرة، التي تبدو أحياناً مثل أشباح عملاقة تقبع في بحر من الظلمة، الأم تسير أمامي، سمينة قصيرة تتبعها رائحة صندلية التاج الأصلية، يُسمع لمِشيتها طقطقة يعطيها الليل سحراً خاصاً، كانت التحايا تصلنا من هناك وهناك متسللة عبر سياج القطاطي وأبواب الرواكيب وسقوف القش
    - مساء الخير أديّ .
    - مساء الخير أمي.
    - أمي أديّ.
    - أديّ.
    تأتي التحايا مختتلطة بوحوحة العاشقين وثغاء السكارى، وبفحيح الفعل الليلي ونداء الأجساد الحية النشطة الشبقة، تستجدي ملائكة المتعة أو شياطينها، الأمر سيان
    قالت لي وهي تتحدث باستمتاع خاص
    - الدنيا لعبة وآخرها كوم تراب.
    هززت رأسي إيجاباً، بالأحرى بما يعني: فهمت.
    مررنا بصوت سيدة تستجدي عَلناً وبصوت عالٍ بائس أن يأتي من ينقذها، وأنها سوف تموت الآن إذا لم. كانت تسترحمه وتستجديه أن يتركها، أن يُخْرِجه، أن يخليها تتنفس، تتنفس لا أكثر، أن يرفع جسده الثقيل منها، أن يقذف بسرعة، إنها تموت.
    وبشهامة معروفة عني، إنطلقت نحو القُطِية قاصداً فك الاشتباك، ولكن أديّ أمسكت بيدي بقوة قد لا تصدر من امرأة في عمرها، وخاطبتني قائلة
    - ما تَصَدق النُسوان يا ولدي: من صَدّقْ النُسوان؛ كَذّب الرُسُل.
    ثم انتهرتَها بحزم، موبخة إياها
    - يا بِتْ أخجلي.... عَيب.
    فصمت الصوت صمتاً تاماً مضيفاً للمكان رهبة الموت، عبرنا نحو زقاق أكثر ظلاماً خارج مجمع أديّ السكني، كان السُكارى والعابرون يلقون علينا التحايا في كلمة واحدة سريعة.
    - أديّ.
    فتجيب أديّ بصورة ميكانيكية حنينة
    - أهلاً ولدي.
    - أهلاً بتي.
    - أهلاً أخوي.
    - أهلاً أمي.
    - أهلاً حَوَيْ.
    كانت تميز وجوههم السوداء المظلمة وجهاً وجهاً، تعلم أصواتهم المخمورة المخدرة المبحوحة وتراً وتراً، أشباحهم هيئاتهم، إيقاع مشيهم، أنفاسهم خاطبتني فجأة
    - صَاحِبَكْ دا أول زول ينطرد من بيتي.
    في أكثر من تلاتين سنة قَبلُهُ كان واحد بس، هو منقستو.
    قلت مندهشاً
    - منقستو؟
    - أيوه.... منقستو هايلي ماريام، قبل ما يكون رئيس في الحبشة، كان فالول في غابة زهانة وخور الحٌمرة، كان زول صعب، الله يرحمُهُ.
    سألتها
    - وين الزول دا؟
    قالت مشفقة عَليّ
    - الله يرحمُهٌ.. مات زمان.
    لم أقل لها أنا أقصد صديقي وليس منقستو هايلي ماريام،ولكني هززت رأسي إيجاباً.
    يمكن سماع طقطقة شبشبها، في ظني، في كل البيوت المجاورة، مررنا بامرأة سوف تكون لها حكايات كثيرة في قادم أيامنا بالحلة، وهي الصافية، امرأة نحيفة سوداء كالعادة هنا حيث الظلام يصبغ الجميع ببهائه، تحمل شيئاً في يدها ويتبعها رجلان، تبادلتا التحايا بينما سكتُ أنا وصمتَ الرجلان، عبق العرقي البلدي مختلط بصنان نفاذ وعرق كادح: عبرا في وجهينا.
    عندما ابتعدوا قالت لي أدي
    - الليلة الجَنْقُو نزلوا، ما شايفهم شايلين القُوقُو كيف؟
    سالتها ما إذا كانت المرأة أيضا جنقوجوراية، فأجابتني بأنها أشهر الجنقوجورايات في الشرق كله، من الحُمَرة الى أقصى صعيد القَضَارِفْ، من الحَواتة إلى الفَشَقَةْ، كل الناس يعرفونها، ثم أكدت لي أن جدودها و الشياطين هم الذين أفتتحوا هذه الأراضي، كانت تتحدث بيقين وعلم راسخ وتُقْسم بين الحين و الآخر بالله، بأن هذه الأنحاء مسكونة بالجن، ثم أضافت قائلة.
    - و الكلام دا مذكور في الكتاب.
    قلت لها مندهشا
    - ياتو كتاب؟
    قالت بسرعة
    - كتاب الدين، في كتاب تاني غير كتاب الدين؟
    هززت رأسي بما يعني: لا و الله.
    بين حين و آخر أجد نفسي منشغلا بمصير صديقي ولكن أدي لا تترك لي فرصة للتفكير، فهي إما تتحدث، أو تسحبني خلفها بسرعة رهيبة في الظلام، هي تحفظ تضاريس الطريق و شعاب المكان و أنا كالسكران لا استطيع أن أمشي غير متعثرٍ ، وكدت أن أسقط عدة مرات. مشينا مسافة قدرتها بالميل،ربما عبرنا صفين آخرين من بيوت القصب و القش و القطاطي الكبيرة،تهيأ لي أننا كنا نسير في زاوية منفرجة،حينما بلغنا ما إعتقد أنه زاوية المثلث، سمعت صوته، عالياً، بل يكاد أن يكون صراخاً،وهذه أيضا إحدى عادات صديقي السيئة،وهي ليست علامة غضب ولكن دليل على أن الأمور تسير في صالحه،وبصورة جيدة.
    كان يهتف قائلاً، إنه لا يدفع و لا قرشاً واحداً، ويكرر أن هذا مبدأ؟
    كانوا داخل حوش كبير من القصب و الأشواك،في وسطه قطية كبيرة وراكوبة،ترسلان ضوءاً شحيحاً من عمقيهما،كانوا يجلسون و يقفون تحت ظل الضوء الشحيح، تبدو أشباح الرجال الخمسة جلية واضحة، طلبت منهم أن يتركوه، هتف في أحدهم
    - انت منو؟
    قالت لهم الأم أدّي وفي وجهها البُني تتحرك عينان قلقتان كبيرتان تلمعان في الظلام كعيني قط يتربص فأراً.
    . خلوه صاحِبُهُ دا حيحل معاه المشكلة-
    قال مخاطباً إياي
    - أنا عايز أفَهِمْ الناس ديل الفرق بين الرذيلة والفضيلة، الفرق هو القروش العايزني أدفعها دي، القروش بتحول اللقاء الحار الإنساني البديع الخيّر المبارك الحصل بيني وبين الزولة الجميلة القاعدة جوه دي، (مشيراً إلى عمق ظلام القُطية) إلى نوع من الد....... والش.......
    فجأة أتى صوتها من عمق سحيق مظلم قائلة ببجاحة
    - أنا عايزة حقي يا زول، دا شُغُل!! أنا ما بتنفع معاي فصاحة الشوعيين الكفار دي، عايزة حقي، عايزة حقي، حقي وبس..... دُوُرين زَي السِمْ!! دورين يا ظالم وتقول لي دعارة!! دورين.. دلكة وعِصير رجلين وطقطقة أصابع ومص وعض دا كلهُ مِلِحْ؟
    أنا بعرفك من وين؟ لا حبيبي ولا ولد حِلتنا و لا أخو صاحبتي..
    يبدو أن الحوار كان يدور بهذه الشاكلة لأكثر من ساعتين، حوار الطرشان، في تجمعات صغيرة بين هنا وهناك يُرى الندماء قرب راكوبة باهتة تحت فيما كان ظلاً عصرياً ابتلعه الظلام وتركهم، رائحة سمسم يُشوى، قرقرة شيشة قريبة جداً، سيدتان تضحكان بتحفظ، قال لي
    المره دي جابتك؟ -
    قالت أدّي منفعلة
    - أنا أدْي مُشْ المره دي!! سامع؟
    انتهره أحدهم
    - اتكلم مع أدّي بأدب.
    قلت لأدّي متجاهلاً كل شئ
    - أنا عايز أرجع.
    قالت لي مندهشة
    - ترجع وين؟
    - للقطية؟
    قالت
    -عايز تَرِجّعْ قروشك؟
    حيث إنها كانت قد رأتني أدفع (للمرأة) نقوداً كثيرة جداً
    قال لي صديقي محتجاً
    - إنت دفعت قروش؟! إنت زول داعر
    لم أرد عليه، قلت مخاطباً أدّي
    -عايز أرجع القُطية.... ممكن؟
    قالت بانشراح وقد فهمت ما أرمي إليه
    - إنت زول مختلف... ما زي صاحِبَكْ.
    خاطبني بسخرية
    - نتقابل الصباح يا أبو الشباب، يا فالح
    هززت رأسي إيجاباً أو بما يعني: على كيفك يا بُنيّ.
    عبر زقاقين قصيرين مظلمين قادني رجل كلفته أدّي إلى بيت الأم. حيث التقيت لأول مرة بامرأة انتظرتني طويلاً في القُطية اسمها: ألم قِشي.

    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 16:39

    قابلناها في سوق القَنْذي، وهو سوق للملابس المستعملة الرخيصة، يُقَامُ على هامش السوق الكبير، قرب زريبة المواشي في مكان خجول منزوٍ حتى تُضمن خصوصية الرواد، البائع والبضاعة، يرتاده الجنقو بين حين وآخر، إما لبيع ملابسهم وأحذيتهم وما تبقى من زينتهم، استبدالها، أو شراء أخرى وذلك في شهور الفلس قبل موسم الحصاد أو عندما يقبضون على ما تحصلوا عليه من نقود نتيجة للعمل في الحصاد، ولا يمنع أن يمروا عليه كذلك للبحث عن ملبوسات خاصة قد لا تتوفر في مكان آخر غيره.
    شاهدناها من بعيد تقف أمام البائع، تتفاوض في شراء جلباب، قال لي فيما يشبه الهمس: الصافية
    - الصافية الرهيبة...... أنا عايز اتكلم معاها... يا صديق.
    وكان يُطْلِقْ عليّ هذه الصفة عندما يشرع في الحديث عن موضوع يظنه بالغ الأهمية.
    - المخلوقات البسيطة الصغيرة المهملة المرمية على هامش المجتمع والمكان، تجد فيها أسراراً لا حد لها، أن الله دائماً ما يستودع حكمته في نوع زي ديل.
    أنا عايز أصل لأصل الحكمة فيها
    قلت له ساخراً بذات اللغة التي تحدث بها
    - عايزها مشروع حياة.
    - بالضبط، حتكون إضافة حقيقية لتجاربي الإنسانية،
    تصور لو عرفت كل تجربة مرت بحياتها، لو عرفت أحلامها وأحزانها وآمالها، لو عرفت كيف بتفكر الزولة دي، كل زول لاقيته في الحلة دي يحكي لي عنها حاجات أقرب للأساطير، كلمني عنها مُخْتَارْ عَلِيْ، أنا عايز أصل للحقايق بنفسي، وليس من سمع كمن شاف.
    سألته
    - منو هو مختار علي دا؟
    - واحد عجوز مريض اتعرفت عليه أمبارح بالليل رجل طيب، بت معاهو في البيت.
    وبأسلوبه المباشر، المعروف، طلب منها أن تسمح له بدفع ثمن الجلباب، مانعت قليلاً ولكنها قبلت أخيراً، وشكرتنا الاثنين وتبعناها إلى سوق الكَجَيكْْ، دفع لها ثمن رطلين من السمك الجاف الكَجيكْ وكوم الكَوَلْ، الفَُرندو و ربع اللّوبة البيضاء، كُرَاعات الشَرمُوطْ، لفتين المُصران وربع رطل الكمبُو. قالت ممتنة:
    - كدا تكونو وفرتوا لي قروش المريسة لأسبوع كامل، ووفرتوا أكل لخمسة عمال مساكين لأنه دا (الميز) بتاعهم... بعد يومين حنرجع الخلاء.
    قال لي، وكأنه يهمس همساً
    - ليه ما نمشي معاهم الخلاء؟! أنا عايز أشوف الجنقو في مواقع عملهم، في بيئتهم الطبيعية.. حتى ولو اشتغل معاهم. أنا عايز أدرس حياتهم، دراسة من شاف وعايش وعاش.
    ضحكت من كل أعماقي، أنا أعرف أنه لا يستطيع فعل ذلك، وأعرف أنه لا ينفك من كونه برجوازياً صغيراً متخماً بالمتناقضات والادعاء والأحلام الكبيرة، يحاول أن يقضي عطالته وصالحه العام في مكان يقدم له الدهشة والانفعال، المتعة والإثارة متعة المشاهدة أما أن يعمل في قطع السمسم، فهذا مستحيل. العلاقة بيني وبينه قائمة على الصراحة والوضوح، بالإضافة إلى أننا كنا نعمل في مؤسسة حكومية واحدة، طُردنا للصالح العام معاً، إلا أننا عشنا طفولة واحدة في قِشْلاقِ السجون بمدينة القضارف، ولو أنه كان يسكن في قِشْلاق الضباط حيث إن والده كان ضابطاً كبيراً ومديراً للسجن، ووالدي جندياً بالسجن، امتدت علاقتنا من المدرسة إلى الحي إلى البيت، ثم لم ننفصل عن بعضنا البعض منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كلانا كان كتاباً مفتوحاً مفضوحاً أمام الآخر، حيث إننا كّوِّنا نَفَسِيّاً ومعرفياً بصورة تكاد أن تكون متطابقة، قرأنا في مدرسة ديم النور الابتدائية، لعبنا خلف البَيطري وعلى تُخوم مقابر المدينة معاً، تشاجرنا مع أطفال دَلَسَا وسَلاَمَةْ البَيِهْ جنباً لجنب، سَبحنا في خُور مجاديف وبِرَكْ مَكِي الشَابِكْ، ولعبنا جيش جيش في وسط غابة الحسكنيت على سفح جبل مكي الشابك، قرأنا ذات الكتب واندهشنا معاً باكتشاف جُبران خليل جُبران، مخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ومهرجان المدرسة القديمة، ونحن نكبر تدريجياً عرفنا معاً نيتشه والنساء، ودقات ريشة ڤان جوخ، ثم حفظنا أشعار أمل دنقل، ناظم حكمت، محمد محيي الدين، المُومِس العمياء، ماريا وامبوي، عشقنا البنات أيضاً معاً، في باكورة مراهقتنا أحببت أخته وأحب أختي، كأول مغامرات غرامية لكلينا، ولو أنني ما كنت أدري ماذا يفعل وأختي بالضبط حيث إنهما كانا يحرصان على إخفاء نشاطاتهما عني، إلا أنني، ولأن أخته تكبرني بعامين أو ثلاثة، كنا نعمل على اكتشاف جسدينا بصورة محمومة وممتعة، أختي تصغره بعامين، مما جعلني أفترض أن شأنهما قد يختلف، لأن البنات الأكبر سناً هن دائماً يبتدرن ما يخص الجسد وأنهن يعرفن كل شئ، ونسبة لصغر سن أختي ما كنت أظن أنها بمهارة أخته، دائماً ما أتخيلها بريئة مسكينة عويرة، على كل ليس فيها ما يُعجب ولداً ما، فهي في أحسن الأحوال مملة ومضجرة، وكنت لا أطيقها لحظة، لا تفلح في شئ غير فضح كل ما أقوم به عند أبي، ثم قرأت وإياه ذات الجامعة، ذات الكلية، ذات التخصص، وأول امرأة أجرينا معها فعلاً جنسياً كانت هي نفس المرأة محاضرة شبقة بالقسم. أقول كنت أعرفه تماماً، قلت له
    .أنا مُشْ حأمشي معاك للخلاء حانتظر هنا-
    قال ضاحكاً
    مع ألم قِشي، مُشْ كِدا؟-
    قلت له
    - بالتأكيد.
    قالت الصافية فجأة
    - إنتو الليلة معزومين معاي في بيت أدّي.
    قال فزعاً
    - تاني بيت أدّي؟! من قبل قلعوا ساعتي الجوڤيال الأصلية وشالوا كل القروش الفي جيبي ولو ما ستر الله كانوا كتلوني عديل كدا.
    قالت الصافية بثقة
    - إنت حتكون في ضيافة الصافية
    قالت الجملة الأخيرة وهي تندفع أمامنا مثيرة عاصفة من الصُنَانْ مختلط بعرق المريسة أضافت.
    أنا لازم أكرمكم، بِتِشْرَبُوا؟
    قلنا معاً في آن واحد
    - بِنِشْرَبْ.
    ثم أضاف صديقي
    - المستورد علينا
    قالت
    - أنا عليّ أبو حمار.
    ضحكنا ونحن نتوغل في أزقة الحي الضيقة، تحيط بنا القَطَاطِي وأصرفة الشُوك والقصب ورائحة المُشُك من كل جانب، يَمُر بِنَا السُكارى والعُشاق والأطفال، يحييون الصافية بكلمة واحدة
    -الصافية.
    فترد بكلمتين حنينتين تسعا الجميع
    - أهلاً أبوي.
    - أهلاً أمي.
    فاجأتني الصافية قائلة
    - قالوا إنت سِبتْ صَاحِبك للمجرمين، ومشيت لألم قِشي، كييف لو كتلوهُ؟
    قلت مندهشاً
    - منو القال ليك؟
    قالت ببرود
    - كل الناس بيعرفوا الموضوع دا، مافي شي هنا يندّسْ.
    قلت لها مبرراً
    - أنا عارف مافي زول بيقدر يكتلهُ.
    أضاف ضاحكاً
    - على الأقل قبل عشرين سنة، عندي مشروع ما بيخلص قبل عشرين سنة، بعد داك أصبح مستعد للموت.
    سألتْ الصافيةُ في براءة
    - مشروع في الفَشَقَةْ؟
    حاول أن يشرح لها معنى مشروعه العشريني، ولكنه فشل فشرحت لها أنا، فَهِمتْ، قالت
    - ولكن الموت بيد الله.
    قال
    - نعم، ولكن الحياة بيد الإنسان.
    قالت بيقين عميق
    - الحياة والموت الاثنين بيد الله، الزول ما بيدُهُ حاجة.
    قال مغتاظاً
    - أذن الإنسان قاعد ساكت؟
    قالت في هدوء
    - والله ما عارفة، أنا بس بعرف إنو الموت والحياة دي بيد الله.
    أعرف أنه اغتاظ قليلاً لفشله في كسب الحوار، وأعرف أنه لن يتنازل بسهولة، ولكنه الآن يوفر نفسه لمعركة أخرى في ميدان آخر، ظهرت طلائعها عندما همس في أذني
    - عارف يا ولد، الصافية دي فيها أنوثة مجنونة عديل، أنوثة وحشية... أنوثة كلبة معوبلة، أنا شاميها شَمْ.
    قلت له
    - وإنت كلب عاير.
    قال بسرعة
    - تماماً.... تماماً.... كلب عرمان
    في حوش طرفي من بيت الأم حيث جلسنا، أنا وود أمونة وألم قِشي، وقد هيأ ود أمونة بخفة محترف كل شئ وجلس قريباً من الباب، كنت أحس برغبته العارمة في التحدث معي، ورغبته أيضاً في أن يتركني وألم قِشي وحدنا، وتحسست بميتافيزيقية رعنة رغبة ألم قِشي في أن تطارحني الفراش، ورغبتها في أن يبقى ود أمونة كما هو في موقعه. المهم حسمت الأمر بأن قلت لود أمونة جملة اعتراضية
    - قلت لي اتربيت في السجن مش كدا؟
    أحسست حينها أن ألم قِشي وود أمونة كادا أن يطيرا من الشعور بالراحة، قال وهو يأخذ نفساً عميقاً من الشيشة:
    - آهـ.... السجن، صاح.... اتربيت في السجن

    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 16:51

    وَدْ أَمُونَة
    عِطْرُ البَخُورِ الحَبشي يملأ القُطِيةَ، تأتي أصوات المكان مخترقة قش وأقصاب القُطِية عَبْر الظُلمة للداخل، واستطعنا أن نميز غِناءً جميلاً رقيقاً يتلمس سِكَكَه عبر الليل نحونا، قال ود أمونة: إنها بوشاي. ثم واصل في حكي تفاصيل السجن، تحدث بتلقائية وبساطة، بهدوء ورقة لا تتوفر في شخص غيره، ألم قِشي تقاسمني الوسادة البيضاء المستطيلة على طول عرض السرير، تخلف ساقيها مع ساقي، وبين وقت وآخر تتعمد حَكّ أخمصَ قدمي بأحد أظافر رجليها، مُثيرة شَبَقَاً وحشياً تؤجله دائماً حكايات ود أمونة المدهشة في السجن، الليل كعادته في هذه الشهور دافئ مَرِح، عَنّتْ فِكرةٌ لألم قِشِي، عبرت عنها بنهوض مفاجئ من حضني قائلة:
    - حَأعمل ليكمُ قهوة.
    هكذا يعبر الناس عن حبهم واهتمامهم بالآخر في هذه الأمكنة، بأن: يعملوا لك جَبَنة.
    قال ود أمونة مواصلاً حكاية العازة، لم تستطع عازة أن تقنع أمه لكي تتركه معها عندما تخرج من السجن في الغد، وأرسلت لها الوسطاء من سجانين ومسجونين، وحتى مأمور السجن نفسه، ولم يقنعها سوى ما حدث لود أمونة في ذلك المساء: كنت في طريقي إلى عنبر النُسوان بعد أن عدت من مشوار كلفني به الشاويش خارج السجن، عندما وصل ود أمونة الممر المؤدي إلى الزنازين وهو الطريق الأقصر إلى الجزء الغربي من عنبر النُسوان حيث مقام أمه، إذا بيد ناعمة قوية تُمسك بذراعه، وأخرى توضع في فمه، كانت تفوح منها رائحة البصل والثوم مما جعله يتعرف بسهولة على الطباخ، ثم همس في أذنه
    - ما تخاف، دا أنا.
    ثم سُحبت الكف عن فمه، قال له ود أمونة
    - عايز مني شنو؟
    قال الطباخ
    - إنت بكره ماشي مع عازة، طبعاً حيطلعوها من السجن، وإنت حتمشي معاها، وأنا جيت عشان أقول ليك مع السلامة، طالما إنت ما بادرت بالوداع، مُشْ عيب عليك يا ود أمونة، ما تقو لي مع السلامة؟
    قال ود أمونة متضايقاً
    - كويس، مع السلامة، يَلاّ فك يدي.
    قال الطباخ محاولاً أن يكون رقيقاً ومهذباً
    - لا.... ما كدا.. مع السلامة دي عندها طُقوس وفي احتفال صغير أنا عامله ليك في مخزن المطبخ برانا، أنا وإنت.. جِبت شمع وعندي ليك هدية، ملابس جديدة وجزمة وكرة وحلاوة وحاجات حتعجبك.
    قال ود أمونة وهو يحاول نزع يده
    - إذا ما فكيت يدي حأصرخ وأمي تسمع وحتجي تقتلك.
    فأدخل الطباخ يده في جيبه وأخرجها قابضة على نقود لها رنين
    قال له ود أمونة
    - أخير ليك تفكني.
    بيد الطباخ الممسكة بالنقود، أعاد النقود إلى جيبه وبسرعة ومهارة فتح زرار بنطاله وأخرجه، شئ لم يستطع ود أمونة تمييز معامله في الظلام ولكن عندما دفع به الطباخ إلى بطن و أمونة، أحس به ود أمونة قوياً وطويلاً، قال الطباخ
    - الموضوع بسيط، وما بِيَاخُدْ دقيقة واحدة، وأنا أدْيّك أي حاجة عايزها-.
    وعندما مَدّ فَمَه الذي تفوح منه رائحة الصعوط مختلطة بسجائر البرنجي محمولة على عبق عَرَق العيش، بحركة رشيقة خاطفة أمسك ود أمونة بشئ الطباخ، كان مظلماً، كبيراً وأملس، أدخل ما يكفي في فمه وبين أضراسه الحادة نفذ وصية أمه بحذافيرها، الشئ الذي جعل كل من في السجن والذين يجاورونه والذين تصادف مرورهم في تلك الليلة بتلك الأنحاء، يقفزون رعباً في الهواء من جراء صرخة الطباخ العنيفة البائسة التي لم يسمع أحد في حياته مثلها ولن تتكرر في مقبل الأيام، صرخة أطارت العصافير الصغيرة النائمة في أشجار النيم في وسط السجن، جعلت السمبريات العجوزات الساكنات بالسنطة عند بِركة المياه جنوب السجن، تضرب بأجنحتها في ذعر، كانت الصرخات التي ألحقها بالصرخة الأول، أقل أهمية، لأن أحداً لم يسمعها سوى ود أمونة، كانت أكثر بؤساً ورعباً. ثم سقط.
    - بصقت رأس الذكر من خشمي، كان شئ مقرف.
    قالت لي أمي بعدما صلينا صلاة الصُبح في الساحة
    - إنت حتمشي مع عازة إلى بيتهم، أنا تاني ما حأخاف عليك، إنت بس حافظ على أسنانك، حأديك قروش تشتري بيها مساويك.
    رائحة قلي البُن الحبشي تملأ رئتي عبقاً لذيذاً، وصوت بُوشَاي الحُلو يغني، فيأتي به الهواء الدافئ من حي العُمدة إلى قُطِيّة أدّي شَهياً، قالت ألم قِشي:
    بعد دا كله.. الطباخ شغال لِسَعْ في السجن، سمين زي البغل.-
    تحركت ألم قِشي وهي تحمل المِقلاة تطوف بالقُطية مقربة إياها من أنوفنا، فنستنشق المزيد.
    قال ود أمونة
    - طلعت من السجن وأنا عمري عشر سنوات، لكن تقول راجل كبير، كنت بعرف كل شئ، ما تفوت عليّ كبيرة ولا صغيرة.
    أضافت ألم قِشي في زهو
    - ما شاء الله.. ود أمونة دا... أصلو ما تقول كان طفل في يوم من الأيام .
    صبّت البُن في الفُنُدك وأخذت تدق بتنغيم اتبعته بغناء بلغة الحماسين.
    قال لي ود أمونة معتذراً
    - معليش شغلتك بحكايات السجن والأمور الفارغة دي، أنا حأخليك شوية مع ألم قِشي وحنتلاقى، أنا قاعد في قُطية ما بعيدة من هنا. بالغرفة سرير واحد ولكنه ضخم، يساوي سريرين كبيرين، يسمونه: السرير الدَبُل، مصنوع من السنط، له قوائم ضخمة ثقيلة، عليه مُلاءة بيضاء مطرزة بالكروشيه في شكل طاووسين كبيرين متقابلين بالفم، ويبدو النهج الحبشي واضحاً في فن الحياكة والتطريز،من حيث استخدام اللون الأصفر و الأحمر و الأخضر، كانت ألم قِشي كعادة الحبشيات تبدو في بشرة حمراء ناعمة وساقين طويلتين نحيفتين منتظمتين وجميليتين، عليهما نقوش حناء باهتة ووشم على القدم غريب، بدى لي كصليب أو خاتم سليمان، أو ربما وردة سحرية، على كلٍ، كان شهياً وطيباً وطازجاً
    لا أفهم كثيراً في ممارسة الجنس، في صباي، أنا وغيري من صبية الحي، في أيام مراهقتنا الأولى، أتينا الأغنام والدحوش وحتى العُجول ولم يكن ذلك ممتعاً، ولكنه مهماً حيث تبدو كبيراً وفحلاً أمام أصحابك وإلا لُقبت بـ المرا، وهذا لا يجوز في حق أحدنا، ولكن، تجربة شريرة حدثت لي قبل ذلك أي قبل البلوغ بسنتين أو أقل، كانت الأكثر إدهاشاً وأكثر بقاء في ذهني وربما مازالت توجه بوصلة الجنس في ظلماء نفسي، إعتادت خالتي التَاية أن ترسلني إلى المِطحنة عند الصباح الباكر، قبل الذهاب إلى المدرسة، لكي أوصل جردل العيش إلى هناك ثم أعود لأخذه في نهاية اليوم وأنا عائد من المدرسة، أي بعد أن يتم طحنه حيث تقوم بإعداده لصنع كِسرَة يوم غد، التي تبيعها في السوق الكبير، صاحبة المطحنة امرأة شابة ليس لديها أطفال، يعمل زوجها في سوق الخضار، وكعادته لا يعود إلا عند المغرب، وهي سيدة معروفة في مجتمع المراهقين بصورة جيدة وكل واحد منهم له معها قِصة، ربما أغرب من قصتها معي، ولكن ربما الشئ الذي يميز حكايتها معي؛ هي أنها كانت تضربني ضرباً مبرحاً، لا أدري لماذا في ذلك الوقت، ولكني فهمت فيما بعد بعض الشئ، عندما أعود لأخذ الطحين كانت تأخذني إلى داخل المنزل عبر باب داخلي للمطحنة، وهناك تخلع ملابسها وملابسي، في أول مرة شرحت لي وأرتني إياه، وخفت خوفاً حقيقياً عندما رأيته لأول مرة، كان لا يشبه كل التصورات التي رسمتها له و أصحابي، كن نظن أنه شيئاً جميلاً، جذاباً مثل الوردة، ولكن هذا الشيء الذي أمامي شيئاً آخر، إنه أشبه بفأر كبير على ظهره شعر أسود مرعب،له فم كبير وربما أسنان أيضاً، بل له رائحةٌ كريهة،لا أدري كيف خُدعنا به طوال تلك السنوات، فلم آلفه أبداً،ولكنها بخبرة المرأة المجربة التي تعرف كيف تُثير، أذالت مخاوفي، ثم عرفتُ كل شئ، أو ما ظننت أنه كل شيء، ولكنها كانت تطلب مني غير الإيلاج أن أقذف، بالأحرى كانت تأمرني قائلة:
    - . بُول … بُول..... بُول
    وأنا لا أعرف كيف أبُول هناك، وليس لدي بُول في مثانتي، فكنت أقول لها ذلك فتغضب فتضربني قائلة:
    -. بُول، بُول الرُجال، إنتَ مَاكْ راجل
    ولم أعرف بُول الرجال هذا إلا بعد سنوات كثيرة، عندما جاءتني في الحلم هي ذاتها عارية، وبحلق فيّ فأرها المتوحش ، وضربتني عندما اشتد بها الشبق.
    - . بُووووووووول
    فبللت ملابسي بسائل دافئ، له رائحة اللالوب الذي كنت أكثر من أكله في تلك الأيام، خرج البُول في لذة و ألم مُدهشين. ثم لم أبل في سيدة بالفعل أبداً، حيث لم تتح لي فُرصة لذلك، أو أنني كنت خجولاً أمام النساء، ولم تصادفني من هي في جُرأة تلك المرأة، أو لست أدري ما هي حكايتي بالضبط، كل ما امتحنت به جسدي، كانت لمسات أخت صديقي الدافئة البريئة، إذن بعد خمسة وثلاثين عاماً هائنزا وجهاً لوجه مع امرأة، ولأول مرة في حياتي: امرأة فعلية مجربة وخبيرة وأنا رجل كبير في السن راشد وبالغ ولا خبرة لي في النساء، ولا أدري كيف فَهِمَتْ ألم قِشي ذلك، ولكنها قامت بكل شئ بنفسها، بدءاً من لِبسِ الواقي؛ انتهاءً بالبُول، بُول الرُجَال، كانت تسحبه من أعماقي بِجُنونٍ ولذةٍ لا يوصفان.

    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 16:55

    الجنقو مسامير الارض Wwwbr

    صوره من خطاب المنع
    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 16:59

    دي الماده المنعو بيها الراوايه

    الفصل الثالث

    الرقابة على المصنفات

    المصنفات المحظورة
    15- لا يجوز استيراد أو إدخال أو نشر أو طبع أو تداول أي مصنفات أو التعامل فيها في أيٍ من الحالات الآتية :

    ( أ ) الإخلال بالقيم الدينية أو الآداب العامة،

    (ب) الإساءة إلى المعتقدات أو الأعراف أو الأديان،

    (ج) الإساءة إلى اللون أو الجنس أو تمجيد أو تفضيل جنس على آخر،

    (د) التعارض مع سياسة الدولة وأمنها القومي،

    (هـ) الإنتاج المشترك إذا كان مع دولة معادية أو دعاية لدولة معادية،

    (و) المصنفات التي يصدر قرار من المجلس بمنع دخولها.

    المصادرة
    16- إذا رأى المجلس أن أي مصنف يخالف أحكام المادة 15 فيجب عليه أن يأمر بمصادرته فوراً وذلك دون الإخلال بأي عقوبات
    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 السبت 1 مايو - 17:01

    نقيف لحدي هنا كم ساعه كدا ونجي نواصل باقي الروايه
    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 الأحد 2 مايو - 16:52

    مُخْتَار عَلي، كُلّيقَةْ،
    الجلابي سُماعين.
    ثم واصل مختار علي الحكاية، يستطيع الآن مختار علي المَشي لقضاء الحاجة وحده، بل أن يذهب للدكان عند ناصية الطريق، ويشتري حجارة
    البطارية. قال
    - لما قلنا كدا بسم الله ودخلنا السمسم، كَبّرْ الجلابي سُماعين ثلاث مرات.. الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...الله أكبر... لَمّنْ الخَلا كُلهُ صَنّ يَوُوُوُوُ.
    ثم جاء الجلابي سُماعين بخروفين كبيرين أقرنين، كرامة وسلامة وطلب منهم أن يذبحونهما وقتما شاؤا.
    عندما يكون السمسم جيداً، فتياً مرصوصاً كالدرر على ساق حمراء شامخة، يجبر الجنقوجوراي على الإنحناء لحصاده، حينها يصبح الحصاد مهرجاناً من الرقص، يغني الجنقو لحناً واحداً ثرياً، حلواً على إيقاع ضربات المنِجل، خشخشة ربط الكُلّيقَةْ ورميها بالخلف، متعة الانجاز:
    كُلّيقَةْ
    كُلّيقَةْ
    كُلّيقَةْ
    كُلّيقَةْ
    تصنع (حِلة) و الحِلة، استطاعوا هذا العام أن يرفعوا سعرها إلى ثمانية جُنيهات، وهو ثلاثة أضغاف سعرها في العام الماضي، كل ضربة مِنْجَل هي جزء من ثروة كبيرة، كل ربطة كُلّيقَةْ، كُراع بوليس: هي بعض الحلم يتحقق، كل حِلة انجزت؛ هي ثمانية جنيهات تنضاف إليها ثمانيات أخريات، ثم ثمانيات أخريات، ثم تسلم إلى الخالة؛ بالحلة:
    ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية +....
    ث م ا، +
    م، نيـ +، م
    ا، ة + ث
    نيـ، ث ـ ث + نية
    ة، م + ة
    + نما، ن.. ية.... + + + نية
    وأحس مختار علي برأسه ثقيلة، بيديه مشلولتين، رجليه؛ أين هي رجلاه؟
    أحس أنه ينسحب، قليلاً قليلاً، ينـ.... سـ، حب،، من حقل السمسم، حقل الحياة،
    أبّكر آدم ما لاحظ إنُهُ أنا اتأخرت، يمكن إلا عندما وقعت في الواطا تَبْ، حتين شافاني.-
    أسبوع بأكلمه قضاه مختار علي مريضاً في التاية، وحيداً، حيث يذهب الجميع إلى العمل يتركونه مع الفئران، الزرازير، أولاد أبرق، عشوشاي وكلب الخفير.
    - والله لمّان تقول جاتني نفسِيّات، كلمت سماعين الجلابي قلت ليهُ أنا يمكن أموت هنا في الخلا دا ساكت، وديني الحِلة، عندي أختاً لي هناك متزوجة، وديني ليها، وشالاني جاباني هنا، رماني رمية واحدة، بت عمي، أختي سافرت إلى همدائييت، راجلها اشتغل هناك في التهريب.
    لم يره الجلابي سُمَاعِين مرة أخرى، كأنما رمي بشئ قذر في وادٍ مهمل مهجور، كان قد وعده بأن يحضر المساعد الطبي أو يأخذه إلى المستشفى المحلي، أو حتى ينادي له الفكي علي ود الزغراد، وهو زول يده لاحقة، لكنه هرب منه هروباً، كما وصفه بعض الجنقو فيما بعد: هروب جبان.
    ولكن بارك الله في الأخوات الأخوان، علي رأسهم الصافية، وهي غزالة سوداء نحيلة، قل نحلة لأنها دائمة الحركة، لها رائحة متميزة، عبارة عن صُنان مختلط ببقية الليلة الماضية وعرق كدح دؤوب، هذه السيدة البسيطة الهزيلة، التي يتبعها لفيف من الجنقو كظل لها، المسالمة، من يحتفي بالأخوان ومجالسهم، الطيبة، هي ذاتها الحيوان الشرس الضاري في المشروعات الزراعية، الذي، عندما يقتحم حقل السمسم يرمي الحِلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة.
    وكأنها تعمل بماكينة، ما شاء الله، ينجح الجلابي صاحب المشروع حتماً إذا نجح في أن يضم الصافية إلى فريق عمله، حكى مختار علي
    قالت لي الصافية
    . أنا حأدب ليكم سُماعين ود الحايل-
    . حَأخَليهُ يَبْكي بِدِموعُهُ
    جابت لي الممرضة، جابت لي الفكي علي ود الزغراد بنفسه، جابت لي القِضيم، جابت لي العدسية، جابت لي أم جَلاجِلْ وعِرْقَهَا المُرْ، سوت لي المديدة، الفيتريتة الحمراء وعصيدة الدُخُنْ، قاطعة الشايقي ؛ وهو كما يعرف الجميع جعلي، ولكنه ملقب بالشايقي لآثار شلوخ في وجهه
    - قالوا الصافية دي فيها جنس مرا؟
    وعضّ يده في ألم، ثم أضاف: لو كان بتنعرس، و الله أعرسها.
    ضحك الجميع في آن واحد، ولو أن بعضهم يخالفه الرأي، بل يحتفظ في أضابير وعيه برأي عكس ما طُرح تماماً، لكنهم ضحكوا، تململ البعض، آثروا الاستماع، الكلام عن النساء وفيهن مثل أكل المُوليتة، مُر، حارق ولكنه لذيذ، دائماً له طعم متجدد، ربما لأنه يحرك حنيناً منطوياً في ذواتهم عن أم جميلة فُقدت في موطن ما، أو أخت حنينة لم تنس تماماً ولكنها مختبئة في ركن غيب الذاكرة بعيدة قريبة في آن واحد، أو بنت استحال إنجابها، وربما زوجة، عشيقة، صديقة لم تتبين ملامحها بعد في موطن جاءوا جميعاً منه إلى هنا، ولكن ؛ أيضاً للصافية خصوصيتها، هنالك جوانب مظلمة في حياتها، خاصة فيما يتعلق بنشاطها الجسدي، وكل ما يدور في هذا الشأن ليس سوى اسطورات صغيرات تَمْخِرن في أودية وخيران دافئة، تحت سنطات وسيالات عجفاوات، وعلى حوافر الثعالب والأرانب والحَلُوٌفْات المكان، أسطورات حالمات وديعات.
    قال له مختار علي متحدياً، وقد نسي أم تناسى حكايته
    إنت لقيتها وين؟-
    قال أبّكر آدم
    . لو ما لقيتها ما بكون سمعت بحكايتها مع وَدْ فُور؟! يا أخوي لو ما مُتنا؛ شقينا المقابر-
    حسناً، سوف لا نتطرق إلى هذه الحكاية الآن، لأنها معروفة ومكرورة وقد يتولد لدى البعض بأننا نعرف كل ما يحيط بها، وهذا مجانب للحقيقة، فكل شخص في هذا المكان يحتفظ برواية خاصة به عن الصافية وود فور، حُكيت من قبل من قِبل عشرات الأشخاص، نساء ورجال وأطفال، وكل حكاية ما كانت تشبه الأخرى، وما جاءت به، ما يُشبه الندوة في بيت أدَاليا دَانيال يوم مريستها؛ كان شيئاً آخر.
    الجناح الذي خصتنا به الأم من بيتها الكبير المتسع، يقع في آخر صف من القطاطي الملحقة برواكيب صغيرة ممتدة في شريط قد يصل طوله مائتين متراً، وهو موقع شبه مهجور، وربما خاص. اكتمل المزاج بالشيشة حيث برع في إعدادها ود أمونة الذي لم يحتمل بقاءنا بدون نساء يَحَلين طعم المؤانسة (القعدة) ويكسبن بعض المال، ولم تعجبه فكرة أننا نكتفي بهذا الوحش - في نظره ـ الصافية، وذكر في أذني اسم ألم قِشي كلما وجد فرصة لفعل ذلك، لأنه لا يعرف عني زهدي في النساء، ظل يلاحقني، إلى أن لاحظتْ ذلك الصافية، فتحدثت معه بأسلوب غليظ، حرمنا من نكاته وملاحظاته الجميلة عن الحِلة وناسها وعن السجن، وحرمنا من نفحات عطر راقٍ يَنْسِمها. صمت، ثم، خرج.
    قالت لنا الصافية من بين قرقرات الشيشة، وكأنها تمتص العالم كله في نفس واحد من النارجيلة.
    - البلد دي أسستها حَبُوبَتِي الصافية، أنا سموني عليها. لمّان جات هِنا، كان البلد ما فيها غير المرافعين والقرود والحَلُوٌفْ والجنون، البلد كُلها غابة كِتِر ولالُوب ونَبَكْ.
    حَكَتْ لنا حكايات كثيرة ممتعة، عن المكان قبل عشرات السنين، عن سُجناء يهربون ب(الفِرو) من سجن (الحُمرة) بأثيوبيا، عن جنون يسكنون ويتزاوجون مع البشر،
    عن بشر يتحولون إلى حيوانات وغربان، عن أناس يموتون ثم يحيون في شكل بعاعيت.
    وعن أناس عندما يموتون ويحيون سبع مرات يتحولون إلى أبي لمبة. وعن بشر يأكلون البشر، وعن....... عن.-
    إلى أن قاطعها صديقي سائلاً
    - قولي لينا حكايتك شُنُو مع ود فور؟
    أنا والحق يُقال، خفت ولأول مرة في حياتي أخشى ردود أفعال لا استطيع أن أتنبأ بها إطلاقاً، نهضتْ، مدتْ (خرطوش) الشيشة إليّ، دون أن تنظر إلى أيّ مِنَا، مشتْ نحو قُطيةٍ تبعد قليلاً عن مَجلسنا، القطية الأكبر حجماً، منذ أن غابت الشمس أضاءها ود أمونة مع بقية القطاطي الفارغة، حتى لا يتخذها الشيطانُ مسكناً، اختفت هناك، لم يُسْمَعْ لها حس، لم استطع أن أتفوه بكلمة، ولو أنني كنت في أشد الحاجة لكي ألومه، وأن أكرر ملحوظتي عن سلوكه الفظ، وطريقته المباشرة الفجة عند مخاطبة الناس.
    . تعلم الكياسة، تعلم كيف تخاطب الناس-
    لم اتفوه بكلمة واحدة، وضعتُ (الخرطوش) جانباً، نهضتُ، ناديتُ بأعلى صوتي
    ؟ يا ود أمونة -
    وفي لمح البصر، وكأنما كان ينتظر خلف الباب مترقباً النداء، جاء ووقف أمامي في أدب وهدوء قائلاً
    نعم ؟-
    قلت له
    . أرح... نمشي-
    لم يَقُل إلى أين، ولكنه مضى أمامي ومشيت خلفه، كنا نهرول هرولة، دخلنا زقاقاً ضيقاً، أفضى بنا إلى زقاق ضيق، عبر صف من الرواكيب والقطاطي، عبرنا شجرتي نيم خلف زريبة، تبيناها من رائحة روث الأغنام والبهائم، تفوح منها رائحة (المُشٌك) ثم يتلوى بنا زقاق آخر، ليلفظنا خارج بيت الأم في طريق رحبة يؤمها السكارى والعاشقون ولفيف من خلق الله من الجنقو والجلابة وبعض عساكر الجيش. ومضى ود أمونة، ومضيت خلفه صامتا. إلى أن دخل بيت مختار علي، حينها قال لي
    -إنت عايز بيت مختار علي، مش كدا؟
    قلت له
    أيوه.-
    ولم أسأله كيف عرف ذلك، دخلنا، وجدنا مختار علي وقد خلد إلى النوم، استيقظ بمجرد أن ولجنا الحوش الكبير وصاح
    - منو ؟
    قال ود أمونة
    . نحنا يا مختار -
    - مرحبا، اتفضلوا.
    قال لي ود أمونة مستأذناً
    - أنا عندي شُغُل في بيت الأم، لو ما كدا كنت قعدت معاكم، الليلة في ضيوف كُتار في البيت،، نتلاقى الصباح.
    ودون أن ينتظر رداً مني، ذهب واختفى في الأزقة التي حتماً ستسلمه إلى أزقة، التي سوف تلقي به في بيت الأم.
    بيني وبين نفسي كنت قد فسرت هروب ود أمونة مني وادعاءه المشغولية بعودته السريعة إلي بيت الأم، كان يريد أن يشهد بأم عينيه ماذا سيجري ما بين صاحبي والصافية، سألني مختار علي بصوت نعسان مرهق عن صاحبي، قلت له
    . تركته في بيت أدّي مع الصافية-
    قال محتجاً وقد طار النعاس من عينيه
    لييه ؟ -
    قلت له في برود
    . رغبته -
    قال وقد جلس
    لكن مع الصافية؟ -
    قلت مؤكداً
    . نعم مع الصافية-
    قال لي
    ؟ ما سمعت قصتها مع ود فور-
    قلت ببرود
    . ولكن قصتها معك كانت مختلفة-
    قال محتجاً
    . الموضوع مختلف، معاي براو، ومع ود فور براو-
    قلت له
    هل أنت متأكد من أن قصتها مع ود فور صحيحة؟ -
    قال مستسلماً
    - في الحقيقة مافي زول متأكد من الحصل بالضبط لود فور، ولكن الناس كلها متأكدة إنو حصل ليهُ شئ، كويس؟ كعب؟ الله يعلم. المهم ربنا يستر.
    قلت له وقد عاد واضطجع في السرير
    - ما يهمني إنو ما حتقتله، لأنه ما بيموت بالساهل، وكل شئ غير الموت، هو تجربة مفيدة في حياة الزول، بتنفعه وما بتضره، كعب الموت بس.
    ولكي ينهي النقاش سألني مختار إذا كنت أرغب في النوم داخل القُطِية مثلما يحب صديقي، أكدت له أنها رغبتي أنا أيضاً، وأنني معتاد على ذلك منذ صغري، طالما لم تكن لديّ رغبة في النوم، قلت لنفسي لأجرجرنه في الكلام ولو في الموضوعات التي يحبها كبار السن مثله.
    ليك كم سنة هنا؟ -
    انقلب على جنبه الأيسر ليقابلني وجهاً لوجه
    - والله ما بتذكر أنا جيت هنا متين، أول مرة، لكن من ما كانت (الحِلة) دي بيت واحد كبير مزروب بشوك الكتر والسيال المرافعين والثعالب تحوم والشمس في نص السما، كان الجلابة البيزرعوا هنا، محسوبين على أصابع اليد الواحدة، والأرض المزروعة ذاتها كانت صغيرة وضيقة، كنت أنا وكيل مشروع، أكبر مشروع، ما بشوف التاجر الجلابي دا إلا يوم الحصاد وبس، كل البوابير والعمال تحت إدارتي أنا، ولكن نحنا ما فينا فايدة، الواحد بيلقى العشرة والعشرين في زمن القرش الواحد عندو قيمة، ولكن الواحد مننا يشيل القروش وينكسر في كنابي المريسة في (الحُمرة) في فريق قرش
    دي حلوة
    دي مُرّة
    دي حامضة
    دي فطيرة
    دي خميرة
    دي فتاة، ودي عزباء، دي ش....، ودي شريفة. لحدي ما يكمل الفي جيبهُ، وتاني يبدأ من جديد. أكثر من أربعين سنة بالصورة دي، يمكن حتى تقوم الساعة دا لو ما انتهى الواحد مننا في شجرة الموت، في فريق قرش، و تبقى سوء الخاتمة.
    قلت له مندهشاً
    شجرة الموت؟ تقصد سدرة المنتهى؟ -
    - لا، دي شجرة الموت دي شجرة كبيرة في الحُمرة في فريق قرش، لمّان يكبر الجنقوجوراي خلاص ويقرّب من الموت أو يمرض مرض تاني مافي عافية بعده، يمشي وحده أو ترميه الحَبَشية صاحبة البيت في الشجرة دي حتى يموت، الأخوان ما بيقصروا منه يدوهُ الفيها النصيب كان طعام، كان قُرُوش، كان هُدُوم، كان شراب،كان تُمباك.
    قلت له ثائراً
    لييه ما يرجعوه لأهله؟ -
    - مافي زول يقبل يرجع لأهله بعد العمر دا كله، يرجع ليهم زول موت؟ عيب والله؟
    ثم حدثني أن الجنقوجوراي، أي جنقوجوراي، يأتي إلى هنا للعمل موسم واحد فقط ويقول لنفسه إنه بعد هذا الموسم سوف يعود لأهله، يبسط أمه وأخواته ويتزوج، فيعمل موسمه الأول، ولكن أولاد الحرام وبنات الحرام دائماً له بالمرصاد، فيشرب قروشه كلها مريسة وعرقي وينوم مع النسوان ويصاحب، ويقول السنة الجاية بعد حصاد السمسم مباشرة سوف أعود إلى أهلي، وهكذا، إلى أن يبلغ من العمر عتياً، فيمرض و يموت، قال ضاحكاً
    . أنا في حياتي ما شفت جنقوجوراي واحد رجع لأهله!! إلا إذا جاء أهله وساقوه من هِنا-
    ؟ غريبة-
    ثم أضفت وقد طغى على ذهني موضوع الشجرة الغريبة
    ؟ أنا أتمنى أشوف شجرة الموت دي-
    . في حي قرش، شجرة مشهورة في الحُمرة، جنب بيت العُمدة دَوَدَةْ،هي مصير الزيّنا ديل-
    قلت له مشفقاً
    إنت أهلك وين يا مختار؟ -
    قال في حسرة
    - أنا ما عندي أهل، أنا حسي عمري اتجاوز الستين، بعد دا في أم ولا أب ولا أخوان بيكونوا موجودين؟ وأنا كنت أصغرواحد في الأسرة.
    أولاد أخوانك وأخواتك وين؟ -
    - لا أعرفهم، ولا هم يعرفوني. وقريتنا ذاتها في دارفور انمسحت بالواطا، ضربتها الحكومة. أنا مصيري بس شجرة الموت يا ولدي. وأنا ما ندمان على شئ، والله عشت زي ما عايز. واستمتعت بحياتي في شبابي، وحتى الآن أنا بعمل وبجيب دخل، وأنا مقتنع أنه أي إنسان ضاق نُسْوَانْ البلد دي، وشرب مريستها تاني ما بيفارق عيشتها، وأنا لا خليت نساوين ولا مرايس. من خشم القربة حتى فريق قرش في الحُمرة، ومن الحواتة حتى الفزرا، بس أنصحك يا ولدي؛ ما تفرط في حياتك.
    قلت بيني وبين نفسي: والله فرطتُ وإنتهي.
    قلت له
    . الله يستر.... الله يستر-
    استيقظنا مبكرين كعادة ناس البلد هنا، ينامون مع الدجاج ويستيقظون معه، ما عدا السكارى والعشاق، يسهرون إلى ما بعد منتصف الليل، ويستيقظون مبكراً، تركت له ما تبقى لديّ من تُمباك وقصدت بيت الأم مباشرة، كانت الشوارع تضج بالمارة القادمين من القرى القريبة في طريقهم إلى سوق الجمعة، البربارات مشحونة بالسمسم، القرويون يقتسمون ظهرها الضيق، مرّ أمامي لوري،ثمّ كارو لماء الشرب، ناداني الطفل الذي يقود الحمار باسمي، عندما التفت إليه معيراَ إياه كل انتباهي خاطبني قائلاً
    . صاحِبك أُمبارح نجمتو الصافية-
    قلت مندهشاًً
    شنو؟ -
    قال مكرراً في استمتاع خاص ولذة قوالاتية بالغة
    . صاحِبك الصافية أُمبارح ورتُهُ نجوم النهار-
    قلت بسرعة
    - وين؟
    قال وهو يطرق برميل الماء إعلاناً لمائه
    . أمبارح، بعد ما مشيت خليتُهُ،وسبتُهُ إنت وود أمونة في بيت أدّي مع الصافية-
    سُوقْ العُمَالْ
    افتقدت ود أمونة بمجرد دخولي إلى حوش بيت الأم، كان غيابه واضحاً
    قالت لي ألم قِشي
    ود أمونة قاعد يَعلِّمْ العروس. -
    ؟ يَعلِّمْ العروس؟ يعلمها شنو -
    يعلمها الرقيص، إنت ما عارف إنه ود أمونة فنان؟ ورقاص وحَنّان وحلاق برضو؟ -
    هززت رأسي إيجاباً و لكنني كنت أقصد بيني وبين نفسي: نفياً تاماً
    أضافت في شهية
    . بت أبرهيت، حيعرسها محمد عوض سَوّاق البربارا، يمكن سمعت بحمدو -
    هززت رأسي إيجاباً بما يعني: إلى حد ما
    قالت لي ألم قِشي
    . ود أمونة لو ما الله ستر كان حيجي بت -
    ضحكت وقلت
    ، وبيعمل عمل البنات. ظاهر عليه ما راجل-
    قالت وهي تضحك
    - مافي (مَرَا) جربتهُ حتى الآن، ومافي راجل برضو جربهُ حسب علمنا و معرفتنا. غير حكاية الطباخ الفي السجن لمّان كان صغير، تاني مافي شئ. حسي هو راجل عمره ثمانية وعشرين سنة، ولكن أبوه غير معروف.
    قاطعتها
    . قال أبوه يماني-
    عشان لونُهُ الأصفر ولاّ شُنو؟-
    . هو قال كدا؛ أمه قالت ليهُ-
    قالت وهي تدلك رجليّ يعجينة دلكة
    . أي زول عارف قصة أمه-
    حكت له أن أمونة عندما هربت من أسرتها قبل ثمانية وعشرين عاماً، وكانت أسرتها في قرية نائية في الغرب، أن سائق اللوري الذي صادفته في الطريق مارس معها الجنس، وأن المساعد الذي يعمل معه أيضاً مارس معها الجنس، وأن الجلابي صاحب العربة أيضاً، وعندما وصلت مدينة القضارف، صاحب الكارو الذي استقلته لحلة البنات أيضاً مارس معها الجنس، ثم اليماني صاحب الدكان، النذير شيخ الحلة، ود جبرين صاحب اللوكاندة وراجل المرأة التي استضافتها في الحلة،و الأستاذ زكريا المُعلم بمرحلة الأساس، ثم حبلت بود أمونة. وهذه الحكاية أنا سمعتها مباشرة من كلتوم بت فضل وهي أعز صديقات أمّونَة.
    ولكن ود أمونة طلع يشبه منو؟-
    - والله أنا الجماعة ديلك كلهم ما شفتهم، ولكن لونو دا لون أمه، إنت ما شفت أمه، أمه بيضاء وجميلة زي القمر، بالرغم من إنها كبيرة حسي، ولكنها جميلة
    وين هي؟ -
    - متزوجة من عسكري سجون في القضارف، ولدت ليهُ بِتْ،كان شُفت أمه الليلة تقول عمرها ثلاثين سنة، دلكة وخُمرة وحِنّة ودلال.
    ثم أضافت
    يمكن أمه هي الخربتهُ؟ -
    كييف؟-
    كان مُدلّع.-
    . لكنه قضى معظم حياته في السجن-
    - برضو في السجن كان مُدلّع دلعنهُ السجينات والمساجين والعساكر، تحت تحت الناس بيقولوا العساكر كانوا بيستعملوه.
    الجو صحوٌ والسماء زرقاء وصافية، كنا نجلس تحت الراكوبة الكبيرة أمام القطية، وهي أجمل الأمكنة للونسة وشرب القهوة، ولا أظن أن أول من ابتكر الراكوبة كان يعني بها شيئاً آخر غير الموانسة، سألتني:
    . وين صاحِبَك-
    . مع مختار علي-
    . صاحِبك دا زول غريب-
    هززت رأسي إيجاباً
    أضافت
    . يوم حيكتلوه-
    قلت لها:
    . لا، مافي زول حيكتله، دا ما النوع البيموت مكتول-
    قالت:
    - والله في الحُمرة في فريق قرش ما بياخد عشرة دقايق، شفت العملية العملتها فيُهُ الصافية؟
    قلت لها:
    - الناس هنا يزيدوا الحكايات، وكل زول بيحكي الشئ البيتخيلهُ كواقع.
    ثم أخذت تحكي لي القصة كما تظن أنها الحقيقة، وقاطعتها عدة مرات، محاولاً محاصرتها لكشف تناقض قد يبدو لي هنا أو هناك في الحكاية، ولكنها مضت في حكيها بثبات وثقة العارف المتأكد، ثقة من شاف، ولو أنها وغيرها لم يروا شيئاً، وهذا حسب ادعائي أنا أيضاً، لكنني فضلت عدم الخُوض في هذا الموضوع، خاصة بعدما انضم إلينا ود أمُونة، كانت تفوح منه رائحة الخُمرة والعطور النُسوانية البلدية، كان ناعماً لامعاً ونسوانياً أكثر مما رأيته من قبل، قال إنه مستعجل واشتكى من أن العروس شَتَرا ولم يستطع أن يرقصها إلا على الأغاني الحبشية.
    - وحتى الأغاني الحبشية بالله ويامين، الدلُوكَة في جِهة والرقيص في جِهة، وووب علينا من دي شَغَلانَةْ.
    خاطبني قائلاً
    صَاحْبَك أُمْبَارحْ الصافية طَلّعتْ مَيَتِيِنُهُ.-
    وأخذ يقهقه بالضحك إلى أن سمعنا صوت صديقي يلقي السلام
    ؟ شُنُو مبسوطين كِدا يا شباب -
    استأذن ود أمونة مُدعياً أنه مشغول بالعروس. تناولنا وجبة الإفطار فيما يشبه الصمت وخرجنا إلى سوق العمال، حين وصلنا كانت هناك بوادر ثورة على الجلابة في سوق العمال، وبدى لنا أن الأمر جدير بالمشاهدة، فمثل هذه الحوادث نادراً ما تحدث، تركنا ألم قِشي في المنزل.
    سوق العمال في كل سبت، عند الميدان الكبير الذي يقع جنب المركز الصحي الذي شيدته منظمة عابرة تسمى (كرستيان أوت ريتش)، كمقر لرعاية الأمومة والطفولة، احتلته فيما بعد مؤسسة التأمين الصحي التجارية مشردة الأمهات والأطفال، فيعرف الآن بميدان التأمين الصحي، تحت شُجَيرات النيم الخمس، يقع سُوق (على الله) يؤمه العتالة، الجنقو، البناءون، النجارون والسماسرة، كانت لاندروفرات، باربارات، بكاسي ولواري الجلابة تصطف عند الجانب الجنوبي من السُوق، قُرب موقف الشُواك، حيث سُوق الميكانيكية والحدادين، الزيوت والإسبيرات. التجار الجلابة في جلاليبهم الكبيرة، أوجههم المنعمة، يتوسطون حلقات العمال يساومون، يفاصلون، يخادعون، يحاورون، يجادلون، يتاجرون ويسترضون، قالت لي جنقوجورايةٌ جميلةٌ بُنِيّةٌ استفسرناها، شرحت لنا ما يحدث:
    أول مرة يحدث في البلد دي يتفق الجنقو على سعر واحد، كلهم بدون فرز. -
    كان واضحاً أنّ ثمّة أمراً قد تمّ ترتيبه وأن اتفاقاً ما قد وَقع بين العاملين، كانت وجوههم السوداء والبُنية، الغبشاء والتي يبدو عليها ما تبقى من ليلة الأمس واضحاً جلياً، تلك الوجوه المرحة المتسامحة غير المبالية، تبدو اليوم أكثر جدية وخطورة، تنطق جملة واحدة فقط:
    . حِلة السمسم بتسعة جنيه-
    يقول التجار بسعر ثمانية، ويشتكون بأن الثمانية التي يعطونها الآن مقابل أن يقطع الجنقوجوراي حلة واحدة من السمسم لا تطُاق، فكيف التسعة؟
    يعلم الجنقو، ويعلم الجلابة أن السمسم هو صاحب الكلمة الأخيرة، وما هذه المساومات و الحجج التي تدور الآن سوى مضيعة لوقت الجلابي، وفعلاً، عندما ارتفعت الشمس في قبة السماء، هبت ريح شمالية حارقة، أرقصت المكان، سُمعت أغنيات السمسم موقعة على دلوكة ود أمونة في محاولاته البائسة في ترقيص العروس الشتراء، فتفتقت السنابل السمينة ممزقة ثياباً يريد لها الجلابي أن تبقى إلى حين أن يصلها المنجل، منجل الجنقوجوراي الحنين، الشمس الآن في برج السمسم بالذات، القمر الذي سوف يطلع عندما تغيب الشمس، بفعل المدّ والجزر، هذان الفعلان الشيطانان، سوف يفتقان فساتين السنابل، فيندلق الذهب منها إلى الأرض، يلتقطه نمل نشط لا يكل ولا يمل العمل، فيحتفظ به في صوامع أمينة تحت الأرض لأيام الشدة، تحرسه بَرَكة الملكات الرؤومات، الجنقو متأكدون من أنهم سوف يكسبون الرهان، والجلابة أيضاً يعرفون أنهم سوف يخسرون، ولكن بعض الحوار قد يفيد، دخل الوسطاء، سماسرة، وكلاء مشاريع، داعرات شهيرات، أصحاب لكوندات، سائقو بوابير، تجار الكلام، واقترح البعض:
    أن يأتوا بعمال من محلية الفشقة المجاورة، عمال مهرة ولا يكلفون كثيراً، و أن يتركوا هؤلاء الثائرين، وسوف يندمون.
    ضحك الجنقو عندما سمعوا بذلك قائلين لبعضهم البعض.
    هه.... الفشقة؟ يخلوا سمسم الفشقة لمنو؟ -
    اقترح الجلابة لأنفسهم بصوت مسموع
    نجيب عمال من معسكر اللاجئين. -
    ضحك الجنقو قائلين
    ............؟؟ لاجئين-
    أنتوا بتحلموا؟؟ اللاجئين في المعسكرات بقوا أغنى من المواطنين، يحمدوا ربنا الخلقهم.
    وما في لاجيء فاضي لقطع السمسم.
    اقترح الجنقو لأنفسهم بصوت مسموع
    - أحسن نحن ذاتنا نسيب الشغلة بتاعة السمسم الما نافعة دي، ونشتغل مع شركة الاتصالات في حفر الكوابل.
    قال جنقوجوراي بصوت عالٍ غليظ
    . أنا لو أشتغل زي ود أمونة، ما بقطع السمسم بثمانية تاني-
    قال الجلابة لأنفسهم بصوت عالٍ
    . حنجيب عُمال من خشم القربة-
    قال الجنقو لبعضهم البعض.
    . إلا لو عايزين طَنَبَارة ومدرسين-
    ثم هتفت الصافية قائلة
    - أرح يا شباب نمشو، (القُوقُو) قال داير الحلة، أرح نكمل سَكَرة أمبارح، النسوان في انتظاركم يا أولاد.
    وعندما تحرك فوج العمال نحو الحِلة، وعندما قاصد مباني البنك تحت التشييد، تحدث السمسم سراً لجيوب الجلابة فقالوا
    . رضينا بالتسعة، وإن شاء ما تنفعكم وتبقى ليكم بالساحق والماحق والبلا المتلاحق-
    قال الشايقي
    . نحن قروشكم دي عندنا زي قروش الحرام، نشربها بالنهار نبولها بالليل-
    قبل الجنقو ولكن ألا يذهبوا اليوم، بل غداً، لأن القُوقُو إذا اتجه إلى مكان ما، لابد أن يواصل مشواره سيكملون سكرة الأمس، فالقوقو يتجه نحو الحلة.
    في الصباح الباكر غادروا إلى المشاريع، ما عدا مشروع الجلابي سُماعين قالوا إن عليه أن يتأدب، مما أعاد الاعتبار إلي مختار علي، فبكى من الفرح
    ونحن راجعون إلى داخل الحِلة سألته
    شنو حكايتك أمبارح مع الصافية؟ -
    قال لي وهو ينظر بعيدا:ً
    حأحكيها ليك بعدين، حتعرف كل شئ.-
    قلت له:
    . قالوا فعلت بك -
    قال مندهشاً
    فعلت بي شنو؟-
    - قالوا إنو الصافية عندها (موضوع) زي بِتاع الرجال، وأكبر شوية، نُص حمار مثلاً. يعني قدر بتاع الدحش كدا.
    قال وهو يبتلع ريقه في ضيق بيِّن
    - حأحكي ليك، الموضوع مختلف تماماً الناس هنا مغرمين بالأساطير، هو موضوع غريب، لكن ما عنده علاقة ببتاع حمار ولا بتاع كلب، ولا بينة العقل التناسلي.
    جلسنا على قهوة في سوق العيش قرب الصيدلية، كان الجنقو يعبرون أمامنا إلى بطن الحلة جماعات جماعات، يتحدثون بأصوات عالية وبلكنات كثيرة مختلفة، يثيرون الأغبرة من مشيهم السريع حيث يسحبون أرجلهم سحباً على الأرض، يضحكون وهم يحاكون الجلابة، أخذ أصحاب المطاعم يغلقون أماكنهم ونساء الشاي والطعام يفعلن الشئ نفسه لأنهن يعرفن أن السوق قد (سَبّحْ وَرَبّحْ) وأن الجنقو لا يقنعهم الآن سوى مجلس الشراب، على النساء أن يلحقن بهم في الحلة لكي يبعن لهم العرقي أو يهيئن لهم المفارش فهذه الأيام هي أيام الحصاد والمحصول هوالجنقوجوراي، دَيّنه مضمون ونقده أكثر ضماناً، بس كيف يدخل البيت
    فالنساء يتخاطفونهم من الشوارع.
    اعتذرت لنا صاحبة القهوة عن تقديم أي شئ لنا قائلة بوضوح
    - الرزق دخل الحلة، وعندي عرقي خايفاه يبور، أخير ألحق أبيع كُباية كُبايتين، ولا شنو يا أخواني؟ ربنا أجل سفرهم الليلة، فرصة، ولاّ شنو يا أخواني؟
    هززنا رأسينا معاً بالإيجاب، ونهضنا في وقت واحد من (البنبرين) مظهرين رضاءً تاماً بقرارها، بل عن طريق حركات مقصودة وهمهمات طيبة، أكدنا لها أنها تفعل الشئ الأكثر صواباً، وربُنَا يكون في عونها، تمنينا لها ذلك بصدق وإخلاص، مما جعلها تترك لنا (البَنَبَرينِ) في الراكوبة طالبة منا عندما نغادر أن ندخلهما الحجرة ونغلقها بالطبلة، التي تركتها دون إغلاق.
    ؟ سَمِح يا أخواني -
    رد عليها بحنّية
    . سَمِح يا أختي.. سَمِح-
    قلت لها
    شكراً-
    وقالت وهي تنسحب وعلى رأسها قفة المهمات
    . أنا بيتي جنب بيت الأم-
    ونظرت إلى صاحبي نظرة فيها معانٍ كثيرة وتخيّل لكلينا أنها ابتسمت، الشئ الذي أكدته لنفسي أنها لم تبتسم، رأيت وقع ذلك حزناً طفيفاً على وجه صاحبي، ذهبتْ وهي تترنم بأغنية بنات هابطة، قال لي: تقصد شُنُو الزُولة دي؟
    قلت له دون مبالاة
    . تقصد موضوعك الأمبارح مع الصافية-
    قال
    لابد من أن ود أمونة هو النشر الدعاية دي؟ -
    سألته
    -إنت عَمَلتَ شنو بالضبط؟
    و أكدت له أن ود أمونة كان يُرَقّصْ العَروس في ذلك الوقت، بعد ما قام يتوصيلي الي بيت مختار علي، سمعت صوته يغني بـالدلوكة: اللُوليّة يَسْحَرُوك يا لُولَة الحَبَشِيةْ.
    وتقريباً ناس الحلة كلهم كانوا يسمعونه، صمت صمتاً طويلاً، وهي صفة يتسم بها أيضاً خاصة إذا كان يفكر في أمر شائك. لم أجد سبباً وجيهاً يمنعه من أن يخبرني بالحقيقة فبيني وبينه دائماً الصراحة والوضوح. وليست الحواجز والصمت.
    مرّ أمامنا نفر من ضباط الجيش، يتبخترون في مشيهم كالطواويس، سألنا موظفون من شركة الاتصالات ما إذا كانت (بخيتة) موجودة، قلنا لهم إنها في المنزل. فذهبوا نحو الميس، كان صديقي يعرف بعضهم ومن بين هذا البعض مدير الشركة، مرّ بنا عمال يلبسون أفرولات زرقاء وسوداء وبيضاء عليها بقع من الزيت، تشهد الحلة هذه الأيام نهضة تنموية ينظر إليها الجميع بعين التفاؤل والتقدير، ويهتم الأهالي ويشجعون مظاهرها الخارجية وتنظم البنات الأغنيات عن المعلمين وضباط المحلية والشرطيين ومهندسي شركة الاتصالات، وحتى عمال طلمبة الوقود بشارع همدائييت.
    سألنا رجل وهو يدخل نصفه في الراكوبة:
    بخيتة مشت وين؟ -
    قلت له: في البيت.
    :فنظر إلى صاحبي نظرة فاحصة وقال
    إنتو جُداد في البلد دي مش كدا؟ -
    قلت له: نعم.
    نازلين في بيت الأم؟
    قلت له: نعم.
    ابتسم ابتسامة عريضة، أظهرت أسناناً متفرقة بُنية بفعل التسوس والصعوط، فسّر صاحبي هذه الابتسامة بأنها نوع من السُخرية أو الشماتة، وحكى لي ما أسماه كل شئ حدث بينه وبين الصافية، حتى يغلق هذا الباب على الأقل من جهتي
    (سَبَعَهْ يُومْ عَوَضِّيهْ بَعِيدْ
    البلد، ويقصد الحِلة، ليس بها في الماضي سوى المرافعين، الحَلُوٌفْ، أبوالقدح والقرود والثعالب، وفي كل مكان تلقى الجنون، في الكرب وطرف البحر وحتى في باطن الحِلة
    ساكنة مع الناس. الحِلة كانت عبارة عن بيت واحد كبير جداً مزروب بالشوك، بيت طوله حوالى ألف متر وعرضه أكثر من ذلك بكثير، ومحروس بالكلاب وهو بيت الصافية الحبوبة، في الداخل كان مقسم لبيوت كثيرة، كلها قطاطي من القش والقصب ورواكيب كبيرة من حطب الكتر والدهاسير، وفي المنتصف توجد مطامير الذرة والدخن وخمارات الكَوَلْ، كل الجُدد القادمين إلى الحِلة، يجدون لأنفسهم براحات يبنون فيها قطاطيهم داخل هذا الحوش الكبير، أما العابرون إلى جهات أثيوبيا وإريتريا، أو الصعيد، الذين أتى بهم الطريق، فإنهم يُستضَافون في ديوان الجَدة الصافية، حيث توجد زاوية الصلاة وسبيل للمياه والمستراح؛ وهو عبارة عن حفرة معروشة بالحطب القوي والقش تستخدم كمرحاض. وقد عبر بهذا الديوان حجاج جاءوا من تشاد، نيجيريا، النيجر والكميرون، وحتى مغاربة بيض الوجوه لهم ذقون ولحى طويلة شقراء، استراحوا هنا، وهم يمضون نحو باب المندب إلى اليمن ثم إلى مكة، كان بعضهم يقيم لأكثر من عام، فيتخذ لنفسه أرضاً، يقوم بفلاحتها وزرعها بالسمسم والدخن، وقد يتزوجون وينجبون الأطفال.
    منزل واحد كان مركز الدنيا، وامرأة واحدة كانت سمعتها تملأ الشرق كله، وقد نقل سيرتها الحجاج إلى بيت الله الحرام بمكة، ولمّا رجعوا لأهلهم، حكوا لهم عنها كذلك، في الحقيقة، ما كانت الصافية الجدة هي مؤسسة هذا النزل، ولكنها الأشهر بين صافيات كثيرات عِشْنَ في هذا المكان، سُلالة جد جاء هارباً من سجن في الحُمرة، في سنة موسومة بسنة النَجَمة أم ضَنَبْ وهي نجمة لا تظهر إلا في السنوات التي سوف تشهد أحداثاً عظيمة، كما تعلمون، كان نجماً كبيراً تبختر في السماء بذيله الطويل لأسبوع كامل، جدها أُتِهِمَ في أثيوبيا بسرقة بيت (القِشي) نفسه، وسيقتلونه بالتأكيد، ضرباً أو جوعاً، المسجونون في ذلك الزمن الغابر، يخرجون في مجموعات، يُرْبطون على حبل واحد من التيل، يُطَوّفون بالأحياء والأسواق والمطاعم، يأكلون البقايا ويسألون الناس الطعام والمال، التباكو والصعوط، وهي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الحياة وتجنب الموت جوعاً، فالسجن ليس مسئولاً عن طعام الناس، يكفي أنه يوفر لهم سَقفاً يقيهم المطر وحر الشمس. كان الجد عبد الرَازِقْ مع بعض أصدقائه في مطعم بالحُمرة، قُرب سُوق همدائييت، وهو سوق يؤمه لفيف من السودانيين للبيع والشراء، ولأنهم يأتون عن طريق همدائييت عابرين نهر سيتيت فسمي بهذا الاسم، كانوا يتناولون الزِقْنِي بـالأنجيرا، والشطة الدليخ وهي وجبتهم المفضلة في أثيوبيا، عندما رأى توأمه عبد الرزّاق مربوطاً من قدميه في حبل من التيل مع عشرين من المساجين، كانت (حالته بالبلا) ووجهه أصبح عظاماً من الجوع، تفوح منه رائحة كريهة، احتضنا بعضهما البعض إلى أن فرّق بينهما السجان والمسجونون المتعجلون حيث إن زمن البحث عن الطعام لا يمكن تضييعه في علاقات اجتماعية لا فائدة تُرجى منها، وتكلما بلغة تخص قبيلتهما، ثم أعطى توأمه طعاماً ومالاً ووعداً صادقاً.
    يعرف عبد الرازق عن توأمه أنه خجول وعديم الحيلة، ولا يمكن أن يسرق شيئاً مهما صغُر وأُهْمِل، ويعرف أيضاً أن عبد الرزّاق قد يموت بالسجن إذا لم ينجده، الحبشة بلد غُربة، وهو لا يعرف رجلاً مسؤولاً أو وجيهاً أثيوبياً يستعين به، وحتى صاحبة البار التي كان دائماً ما يختلف إليها قالت له عندما حدثها عن محنة أخيه وتوأمه:
    . لا، القشي حيقتلني-
    وهو ليس لديه مال للرشوة، أمامه بديل واحد فقط، ومضى نحوه دون تردد، عليه أن ينقذ توأمه، مهما كلف ذلك. كان مختار علي يحكي لنا الحكاية كأنما حضر كل حادثة منها أو أنه أحد أبطالها، على الرغم من أنه يؤرخ لذلك بين حين وآخر قائلاً
    . دا حصل من أكثر من مية وخمسين سنة
    كنا نسير ببطء عبر الأزقة، لا نهدف لمكان بعينه، هي فكرة مختار علي، أن نتمشى قليلاً في شمس الصباح؛ لأن بها فيتامينات مهمة، وأكد لي أنه حتى الثعابين تطلع من جحورها لتأخذ منها قوة النظر، صحته بدت في تحسن ملحوظ اليوم، كان متفائلاً ويضحك لأتفه الأسباب، يتحدث بصوت عالٍ وهو ما ليس من طبيعته في شئ، وجدنا نفسينا ندخل زقاق بيت أداليا دانيال، التي فاجأتنا من أعلى صريف بيتها:
    - يا مختار علي، إنت وصاحبك تعالوا جُوه، صاحبكم ذاتو قاعد هنا في بيتي، تعالوا أشربوا ليكم مريسة وونسوا خشم خشمين.
    قبلنا الدعوة الكريمة شاكرين، فالدنيا صباح والمريسة أطيب ما يُستفتح، به وونسة الصباح هي مصيدة حكايات الليلة السابقة، سميتها وصديقي:جريدة الصباح، فالمريسة تطلق الخيال، الذي بدوره يطلق اللسان، فينفتح القلب للقلب مباشرة وتهبط ملائكة الحكايات الرائعة في المجالس فتحلو.
    وجدناه يجلس على بَنْبَرٍ كبير، كشيخ أسطوري نُسِي من مذبحة العَنَجْ، على بَنْبَرٍ آخر، قربه العَجُوز، وهو أشهر مغنِ يستخدم أُم ْكِيكِيْ، في الحِلة والحلال المجاورة أيضاً، بالأحرى، لم ير الساكنون مغنياً يستخدم أُم ْكِيكِيْ غيره، ولم يسمعوا به مجرد سَمَعٍ، يبدو أنهما أنهيا فاصلاً ممتعاً من الأغنيات، حيث إنهما الآن يتحدثان عن مناسبة أغنية:
    سَبعَهْ يوم
    عَوَضِيّهْ بَعَيدْ
    أبو اللّقَنَي
    رُوَدَاي بقنيص.
    فالتقطنا بقية كلام نطق به العجوز
    - ناس الكَلَشْ هم أصحابها الحقيقيين، أنا جبتها من قيسان، وسمعتهم يغنوها في قنيص والكرمك، وحتى حي الزهور وفي يابُوس، وكل حفلات الروصيرص، لكن أنا أول زول يغنيها بأُم ْكِيكِيْ.
    التفت إلى صديقي قائلاً في انشراح
    - وين إنت يا أبو الشباب؟
    ضحكَ، ضحكتْ أداليا دانيال، ضحكَ مختار علي وضحكَ هو في هستريا، قال لي
    . إنت الوحيد البتضحك عن معرفة-
    قالت أداليا وهي تهزّ صدرها الناهد فيما يشبه الرقص
    ، يوم ليك و يومين عليك. كلنا عارفين يا أخوي، الدنيا أصلها كدا-
    أحضرت أداليا دانيال العسلية والمريسة، أحضرت الأم فِتْفِتْ بالشطة الخضراء والفول الدكوة، قالت
    . عندي مُوليتة-
    قال العجوز
    . أنا أحب المُوليتة-
    سألتها
    -عندك أبُنْغَازَي؟
    قالت وهي تشير بإصبع عليه خاتمٌ كبيرٌ من الذهب إلى الشطة.
    . فيها، الشطة فيها أبنغازي-
    قدمت لنا أداليا الكؤوس الأولى بيديها الناعمتين السوداوين، تبدو الحناء على أظافرها رقيقة ساحرة، شهية وأكثر سوادا، بمنزلها أيضاً قليل من الجنقو، حيث سافر الجميع في الصباح الباكر لقطع السمسم، كان مختار علي بين حين وآخر يذكر الناس بانتصاره على إسماعيل الجلابي.
    . سُماعين ود الكِدِك، ما لقى جنقوجوراي واحد يمشي معاهُ-
    ودون رد أو تعليق من الحاضرين، أخذ العجور يغني بصوته الشجي:
    قيسان البعيدة...
    قيسان البعيدة، عندي فُوقُو الحبيبة.
    قيسان البعيدة، عندي فُوقُو الحبيبة.
    ولأن كل أغانيه جماعية، يستحيل أداؤها بدون كورس، أخذنا نردد خلفه المقاطع الأولى من الأغنية، وليست تلك مهمة صعبة، حيث إن كل الأغاني معروفة لدى الجميع، أنا وصديقي غريبين، ولكن ترديد جملتين لحنيتين بالسلم الخماسي، بهما كلمتان من اللغة العربية وخمس كلمات من الأنقسنا ليس بالأمر العسير، ولو أننا قد (نشتُر)نشذ عن اللحن و الإيقاع أحياناً، ولكننا نغني خلفة بإصرار وحماس؛ مدتنا به عسلية ومريسة أداليا دانيال بجمالها ومذاقها الحلو، في الحقيقة لا يُوجَدْ غُرباء هنا في الحلة؛ بمحرد أن تنزلك بربارا أو يلقي بك بصٌ كئيب أو تهبط من ظهر لاندروفر أو يرمي بك لوري في الحِلة، أو بمكان ما في السُوق، تصبح أحد أفراد الحِلة المؤسسين، وتعرف كل شئ عن كل شئ بحمد الله، في ذات اللحظة وذات مكان الوصول.
    رَقصتْ أداليا دانيال بصدرها المملوء باللبن بصورة رائعة، خلدت في ذهني إلى الأبد، تبرع جنقوجوراي شاب من قبائل المابان بالأنقسنا بأداء إيقاع الكَلَشْ السريع الصعب، بواسطة وعاء بلاستيكي يُستخدم لتقديم المريسة، عندما انتهت الأغنية، صفقنا جميعاً لأنفسنا، حيث كانت الأغنية من أداء الجميع، رقصت أداليا دانيال عنا بصدرها الناهد الوافر، مما جعلنا نطلب باقي المريسة (البايرة) عندها. لأن الجنقو الفدادة ذهبوا، وأعطيناها ثمن جردلين من المريسة لم نشربهما، بِحُرّ إرادتنا ووعينا، وحَشَر لها صديقي في فراغ ما بين النهدين (في ما يُسْمَى بوادي الكَدايسْْ)، ورقة نقدية كبيرةُ، همس لي مختار علي في أذني ونحن ننصرف
    لو ما عملت كِدا كان تبيع مريستها الحامضة دي لمنو؟! وعسليتها البايرة؟ -
    وضعنا سريرينا قُرب قُرب في المساء، كان الضوء الباهت يأتينا من داخل القُطية في شكل عمود خضم، حكى لي عن أسرة الصافية كما طلبت منه.
    الجدة ووالدها عبد الرازق، حدثني أن الجد جاء إلى هنا بعد هروبه العجيب من سجن الحُمرة وعلى رأسه (الفِرو)، وهو أول شَخص في تاريخ الحبشة يهرب بـالفِرو، وربما في إيطاليا ذاتها، لأن الإيطاليين هم الذين جاءوا بالفِرو إلى الحَبَشَة، وكان يُستخدم لتأديب الثوار واللصوص.
    شربنا قهوة أعدتها لنا إحدى الجارات وناولتها لنا من على الصَرِيفْ، مُذكرة إيانا بأن اليوم هو عيد القديس يُوهَنِس، باركنا لها العيد وأعتذرنا على المُباركة المتأخرة لأننا ما كنا نعلم بأن اليوم هو يوم عيد القديس يُوهَنِس.
    قالت لي الجارة
    . ألم قِشي تسلّم عليك-
    سألتها بسرعة
    - وين ألم قِشي؟
    قالت وبصوتها احتفالية جذلة
    -هي قاعدة معانا هنا، عايز تشوفها؟
    وجودنا في بيت مختار علي، حرمنا من حضور الاحتفال العظيم الذي أقامته أدّي في منزلها احتفاءً بعيد القديس يُوهَنِس، وحرمنا من وجبة الديوك الحمر والأم بَابَا، ولو أنه لم يكن هناك رقص وغناء نسبة لإنشغال ود أمونة بتعليم العروس الشتراء، إلا أن اليوم كما حُكي لنا لاحقاً كان
    . خطير-
    على حسب تعبير ألم قِشي، وأشير هنا إلى أن ألم قِشي هو الاسم الذي يلاحقني في هذه الأيام، وأنا وهي متهمان بأننا ننوي القيام بخطوة ما كانوا يتوقعونها، يقولون إننا سوف نتزوج في عيد الأضحى القادم، وأقل الأقوال تفاؤلاً بعلاقتنا هي أنني أحُبها حُباً شديداً، وهي أيضاً متأكدة من حُبي لها، مثلها مثل الجميع إلا أنا، لا أعرف شيئاً عن هذا الحُبْ، كل ما أعرفه أن ألم قِشي أول من أنهت عذريتي بصورة واضحة وطبيعية وأنها ؛ لحد ما كسرت حاجز الخُوف الذي بيني وبين المرأة؛ والحق يُقال أيضاً، كنت دائماً ما أتخيل نفسي بأنني سوف أفشل مع النساء حالما تُتَاحُ لي الفرصة كاملة في ذلك، لذا كنّ يخفنني، كما أنني كنت مُقْتَنِعَاً بفكرة غريبة مفادها: أنني إذا فشلت مع المرأة الأولى، سوف أصبح عُنِّيناً بقية حياتي، أي سوف أفشل مع جميع النساء. ولم تنفع الشهادات الهشة التي كنت أستعين بها للدفاع عن رجولتي من حين لآخر، مثلاً ذكري صاحبة الطحّانة التي اغتصبتني وأنا طفل، وذكري أخت زميلي، ذكري دَحَشَةٌ ومِعزة أتيتهما وأصحابي المراهقين، ذكري كلبةٍ ألبسناها طَبقاً من السَعف حول عنقها و اغتصبناها، وأستاذة الجامعة وغيرها من الممارسات غير السوية المقرفة، ألم قِشي هي التي أعادت لي ثقتي بنفسي بِحَرفية عالية، بذكاء بالغ، في متعة مدهشة، وجدت نفسي أتعامل مع امرأة كاملة طبيعية وإنسانة. أتينا الفِعْلَ في ليلة واحدة ما لا يقل عن عشر مرات، أو قل الليل كله وعند الفجر وقبل وبعد الإفطار، أعطيتها أجرها بكرم سخي، ثم لم نفعل مرة أخرى ولو أننا تقابلنا وشربنا القهوة معاً وتلامسنا، أما مسألة الحُبْ والزواج وغيره وغيره، لم أعرف عنها شيئاً، ولم أفكر فيهما أبداً، وإذا صَدَقتُ القَول، أنا لم أحب في حياتي مطلقاً، وغالباً ما يصفني أصدقائي بأنني: بارد.
    ألم قِشي سيدة طويلة، لها بشرة ذهبية ناعمة، بل قل حَمراء، عيناها كبيرتان بالطريقة الحَبشية حيث يُحيطُ بهما ظل ثقيل يضيف إليهما سِحراً خاصاً بساكني المناطق الجبلية والهضاب العالية ذات المُنَاخاتِ المطيرة، فوق ذلك لم تكن بالسيدة الفاتنة فتنة ظاهرة صارخة،على الرغم من أن لها جسدٌ شهواني، وإلا لأصبحت عاملة بار ناجحة في الحُمرة أو قُنْدَرْ أو حتى أديس أبابا ذاتها، ولكن ما يبدو من فتنتها أبعدها، كما تقول دائماً، عن منافسة البَارِسْتَاتْ المحترفات شكلاً و مهارةً هنالك، وقادها إلى الأراضي السودانية الجديدة، حيث شِيِعَ وعُلمَ عن السُودانيين حُبهم للحبشيات وتفضيلهن على نسائهم الوطنيات وسبب ذلك، كما تؤكد ألم قِشي:
    الطَهَارةَ وعَدَمْ الحِنيّة. وعدم الحِنِيّةْ سببه الطهارة برضو.-
    قلتُ للجارة الطيبة
    . قولي لألم قِشي مَبروك عيد القديس يُوهَنِس، وأنا حأجيها بعد شوية عندكم-
    أصدرتْ الجارةُ صوتاً بباطن لسانها،وشفطت كمية من الهواء بنخريها فيما يعني في هذه الأنحاء: حسناً.
    ساعدتُ مختار علِي عَلَى الإستحمام، وذلك لأول مرة تقريباً يستحم، منذ أكثر من أسبوعين، أي مُنذ أن أُصيبَ، حيث نُصح بعدم الاقتراب من الماء، حتى لمجرد الوضوء للصلاة، عليه بالتيمم، نَصحهُ أفراد كثيرون أصيبوا فيما قبل بـضربة الدم، وهو التصنيف المحلي لمرضه المجهول.
    عندما فرغنا من الاستحمام، وجدناها في انتظارنا خارج القُطية، في الراكوبة مضجعةً على عَنَقَريبٍ عجوز دون لحاف، تُظهر عُري سَاقيها بصورة استعراضية إيروسية في غاية الإغواء.قالت طالما أنا رافض أن أزورها، فبادرت هي بالزيارة، ولكنها أكدت أيضا، أنها سوف لا تكرر هذه المحاولة: كُلنا عِندنَا عِزة نَفِسْ.
    تشاغل مُخْتَار عَليْ بأمر ملابسه و نظافته الشخصية.
    سأعترف هُنا، أن ألم قِشي أحَبتني، ولكن في ظاهر الأمر أنا الذي أغير عليها، لأنني طلبت منها أن تترك العمل مع أدّي كفتاة مَبيت، وتعمل طباخة في مَيسِ شركة الاتصالات الجديدة، قلت مُعلقاً ومحبباً الفكرة:
    . عمل شريف-
    قالت بِغنج وهي تحاول أن تخفي عري ساقيها بحركة أخرى أكثر إثارة.
    عملي مع أدّي عمل شريف.-
    قلت لها
    . على الأقل أنا شايفه غير شريف-
    قالت بإصرار
    -أنا شَايفَاهُ عكس كِدَا تَماماً، دَا شُغُل، العايز يدفع، وأنا بصراحة ما قاعدة استمتع إطلاقاً بالرُجَالْ: شُغُل يَعْنِي شُغُلْ.
    وأكدتها باللغة التِجْرِنة ( سَرِِحْ سَرِحْ بَيُوْ) ثم أضافت:
    -العَيب فيهُ شُنُو؟
    عرفتُ فيما بعد، بعد سنوات كثيرة، وذلك بعد أن قرأت كتاب نَقْدُ الفِكرِِ اليَوَمِي لمهدي عامل، أن العيب الذي فيه تربيتي أنا، القيم الخاصة بي كآخر أقيم في ظرف مختلف ونوع مختلف وثقافة مختلفة، تراني اعترف بأنها فتحت لي آفاقاً إنسانية فيما يخص علاقتي بالمرأة، وتراني استمتعت تماماً بالفعل الجِنسي معها، ولكنني رغم ذلك أنظر إلى الأمر كله بميزان الخطأ والصواب، وهذا فضح لرجل انتهازي يسكن في خبايا شخص مدعٍ آخر وهُمَا أَنا، هذه شزوفرينيا أعاني منها كثيراً، ولا أظن أن الأمر له علاقة بالدين أو السُلوك الشخصي، المسألة معرفة فحسب طالما كُنا، أنا وهي نُدرك أن الخير والشر و كل الديانات والكُفْر أيضاً من ذات المصدر، وأن العمل مقدس. ناداني ومختار علي في هدوء، خاطبني قائلاً
    . تعال حأحكي ليك موضوع الصافية-
    قلت له متعجباً
    . إنت مُش حكيته لي أمبارح-
    قال وفي فمه ابتسامة تعبة
    -الحكاية القصيتها ليك قطعتها من رأسي، إنت حاصرتني وأنا حاولت أفوتك، تعال يا مختار علي كون شاهدا على ما أقول، هي حكاية على كل حال ظريفة، ولا رأيكم شنو؟
    أشرنا برأسينا في وقت واحد إيجاباً وجلسنا على عنقريب وبنبر قربه.
    استيقَظَ على إثر نداء الصافيةِ له، كان قد نام على الكُرسي الذي تركتُه عليه، دخل القُطية الكبيرة، كانت شبه خالية من الأثاث، عدا سريرين من خشب السُنط مفروشين بلحافين لم يتبين تفاصيلهما، الإضاءة، لحد ما جيدة، طلبتَ منه أن يجلس في السرير الآخر، جلسَ
    قالت له
    -عايز تعرف حكايتي مع ود فُور؟
    رد عليها بدبلوماسية ليست من طبيعته
    . لو ما بزعجك الموضوع دا-
    قالت وهي تأخذ نفساً طويلاً من الشيشة فتصدر صوتاً بائساً-
    . كُويّس-
    الخريف الفات كنتُ شغالة في مشروع الزبيدي، تعرف مشروع الزبيدي؟!
    وقبل أن تسمع إجابته واصلت الحكاية، كانت هي المرأة الوحيدة بين عشرين رجلاً من الجنقو، وتستطيع أن تتذكر أسماءهم، اليوم، الشهر والساعة.
    أنا وود فور كنا ماسكين مقاولة سوا في مشروع الزبيدي.-
    كانا يعملان في فريق واحد، لاحظتْ أن ود فور في الآونة الأخيرة كان يتقرب منها كثيراً، و دائماً ما يضع نفسه في مجموعة العمل التي تضمها، ولاحظتْ أنه يتعمد الالتصاق بها ومداعبتها، وبغريزة المرأة، تلك الغريزة التي لا تُخيب، عرفتْ أنه يرغب فيها كامرأة، وعرفت أنها تريد ذلك ولأي مدى، إنها سوف لا ترفضه، إذا طلبها للزواج، فهو شاب ونشط ومسئول و الأهم أنه كان دائماً ما يحترمها، فهي ترغب في أن يكون لها أطفالٌ وبيت ورجل، وفوق ذلك كله، لها رغباتها التي يجب أن تُشبَعْ، لذا لم تدفعه عنها ولم تستمله إليها، تركته يقوم بالدور كاملاً، وهي طريقة تجيد النساء تمريرها للرجل الغبي المتعجل العاشق الأعمى، وهي صفات لحسن الحظ، يشترك فيها الرجال كلهم.
    قلت لنفسي يا بِتْ خلي المسألة على الله.-
    وبلع المسكين الطُعم، أطلق المبادرة تلو المبادرة تلو المبادرة، إلى أن نفدتْ حِيله الصغيرة المسكينة، التي أجادت الصافيةُ ادعاء تجاهلها.
    - قال لي، والدُنُيا ليل ولكن القمر أبيض في السما وكل شئ واضح، قال لي:
    يا الصافية أرحكي معاي للحفيرة نَوَنُسُو، أنا ما قادر أنوم شايفة القمرة بيضا ك
    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 الأحد 2 مايو - 17:35

    تثاءب صديقي، شَرِبَ كَوباً من الماء كان على التربيزة جنبه، قفز على تفاصيل كثيرة كثيرة كثيرة، تحدث عما رآه فقط مهماً، قال: إنها أصرّت على أن تحكي تفاصيل تفاصيل، ما حدث بينها وود فور، ربما يكون هو الشخص الوحيد في الدنيا الذي يفهمها، إنها لم تحكها لأي كان من قبل، ما من أحد طلب منها ذلك، اكتفى الجميع بالإشاعة
    قالت له بألم:
    أنا تعبت، تعبت من الحكاية دي، عليك الله اسمعها كلها وما تزهج. -
    وغرقت في التفاصيل. التفاصيل، التفاصيل. أكدنا له، أنا و مختار على أنه ليس مطالبا بأن يختصر، فالليل طويل و نحن ليس لدينا ما نفعله بما يتبقى منه، خُذْ راحتك.
    قال قالت له
    ، مشينا الحفير، طلعنا فوق الدُولَة-
    كان ذلك المكان هو الوحيد الذي لم ينمُ به عُشب الخريف، هي تخاف من الثعابين حصراً، ولا تخاف شيئاً آخر، طمأنها بأنه يمتلك ضَامِنْ عَشَرةْ مُجرب، وأراها له مربوطاً بصورة محكمة على ذراعه اليُسرى، سوياً مع سِكينته، فرشا برشاً صغيراً أتيا به، قالت لي فجأة، وقد علا شهيقها وزفيرها
    ؟ قام جاري-
    قال لها مندهشا
    -منو؟
    قالت وهي تُمسك بيده بشفقة
    . ود فور، قام جاري مني-
    - لييه؟
    قال محتجاً.
    قالت بصوت عميق مخنوق بعبرة مُرّة
    . جرى مني أنا، جرى ود فور-
    ثم هدأت قليلاً وهي تقول
    - كنتَ عايزاه، وبدأنا كل شئ، في الحقيقة كنتُ في حالة قريبة من الغيبوبة، ولكنه قام جاري، فجأة جرى زي المجنون.
    أحسست أنها لا تستطيع أن تشرح أكثر من ذلك، من الأحسن ألا أطالبها أو أجبرها على الحكي، أحسست بالشفقة تجاهها، قررت في الحال أن أضاجعها، وذلك لما توصلت إليه من تحليل، متعجل بعض الشئ، وسريع لحالتها وهو:
    أنها تفتقد الرجل في حياتها، الذين يحيطون بها لم يعرفوا المرأة فيها، ما عدا ود فور، ولم ينتبهوا إلى الإنسانة البائسة ولا يفهمون شيئاً عن حاجاتها الصغيرة الحقيقية. باختصار كانوا يعاملونها كرجل في ثوب امرأة لا أكثر.
    صُدِمتُ لاكتشاف الحقيقة، أو ما أسميته بالحقيقة الأولى. وهي أن رائحة جَسَدَهَا لا تُطاق، وقالت صراحة في ذلك:
    . معليش، ما كان عندي وقت لنفسي-
    وقامت لأجلي بمسح جسدها بالماء، مُستخدمة مُلاءة قديمة من مُلاءات الأم أدّي، كانت لا ترتدي شَيئاً تَحتْ فستانها، وهذه فضيلة، لأنني لا أُطِيقُ رؤية ملابس المرأة الداخلية متسخة أو ممزقة، ولديّ فُوبيا سِرية منْ ذلك، فبمجرد رؤيتي لما ذكرت، أصاب بالعجز الجنسي التام، كانت تحتفظ بِعطر نسائي بلدي الصنع (خُمرة) في القُوقُو، لم تستخدمه من قبل. قالت إنها اشترته من بائعة (دلالية) متجولة قبل عام، وأخذت تدلك أطرافها به، عطر قوي جداً، كان تافهاً، لم يَرقُ لي إطلاقاً، الأمر لا يحتاج إلى كل هذا المجهود من جانبها لأن الفكرة بسيطة، كما شرحتها لنفسي:
    سوف أحاول الجسد إلى أن يستجيب وتصل ذروة نشوتها ثم ينتهي كل شئ. لا أكثر ولا أقل.الأمر في الحقيقة أقرب لمقاولة، وهذا في ظني ما تحتاج إليه الصافية، واحتاج إليه أنا لأقنع نفسي بأنني قدمت لها عملاً خيراً وإنسانياً كبيراً بل ونادراً، فعلاً حُرمتْ منه طوال حياتها، وأتمنى أن أكون مخطئاً في هذه الفذلكة، اقترحَتْ هي اقتراحاً آخر، وهو أن أتركها تستحم استحماماً كاملاً، وقُوبِل هذا الاقتراحُ أيضاً من قبلي بالرفض، الموضوع لا يستحق كل هذا التعب.
    قَامَتْ، أغلقتْ الباب بصورة جيدة، ربما خافتْ أن يقتحمنا أحد الزبائن، أو يتلصص علينا ود أمونة، أو قل ربما أنها خَشيتْ أن يهرب منها كما هرب ود فور من قبل، ولو أنه رفض فكرة قفل الباب، ولكن يبدو أن ذلك حدث بعد فوات الأوان.
    اقترحتْ هي أيضاً اقتراحاً آخر. وهو أن تبقى الإضاءة كما هي، وافق.
    ثم طرحتْ عليّ بسرعة مجموعة من الإجراءات لم يكن هناك داعٍ لطرحها في ذلك الوقت بالذات، كل ما أرجوه أن ينتهي هذا الموضوع وبأسرع ما يمكن.
    المفاجأة الأخيرة، التي لولا قُوة عودي وعزيمتي وصبري على المكروه لكانت القاتلة. قال إنه ليس بالسهل أن يصف لنا ما شاهد، بدى ذلك واضحاً من الطريقة التي أخذ يتحدث بها.
    لا يمكن لشخص مثلي أن يتخيل ذلك مجرد تخيل، بل لا يمكن أن يخطر ببال شيطان رجيم، إذا كان للشيطان بال، قالت بصوت حزين:
    - مما ولدوني إلى اليوم، ما قطعت شعرة واحدة منه، قالوا حلاقتهُ تجيب النحس وسوء الحظ، وبرضو ما لقيت وقت، وقتي كلهُ للشُغُل، بعد دا، حأخلي بالي من نفسي شُوية
    قلت لنفسي:
    . الموضوع ما بيستحق، خلينا نخلص-
    كنت مصمماً على أن أجعلها تدخل تجربة جديدة مثيرة في حياتها، تجربة لا تُنسى، بما يساوي نقطة تحول، قالت:
    . قاعدة أنظفُهُ وأسرحو بالمشط كل يوم جمعة-
    حكى لنا بالتفصيل المُمِل، في الحقيقة ليس مُمِلاً، بل مؤذياً وضاراً جداً، ثم أقسم وأقسم وقال:
    .ْ
    الصافية انقلبتْ مَرَفَعِين-
    قلنا بصوت واحد
    -مرفعين؟
    . مرفعين عديل كدا-
    اللحظة التي وضع يده على عُري جَسَدها وبدأ يداعبها في أذنيها وأنفها الكبير، بدأ الصوف ينمو في جسدها، صُوف أسود غليظ خشن وقبيح، تماماً مثل صُوف الحِمار، كان ينمو بصورة مذهلة، بِسرعة رهيبة، ثم أخذتْ ملامحُ وجهها تتغير، برزت أنيَابُها، ثم أخذتْ تُصدر صوتاً غليظاً، ثم انقضتْ عليّ، كما لو كانت أسداً ضارياً، وأنا فريسةٌ بائسةٌ جريحة، حدث كل ذلك في ثوانٍ معدودات. لا أدري كيف تمكنتُ من الهرب، عبر الباب المغلق، أم عبر الشُبّاكْ الصغير،أو أنني قد اخترقت السياج اختراقاً، لا أدري ولكنني وجدت نفسي خارج القُطِيّةَ، خارج بيت أدّي، خارج الجِلة كلها، حدث ذلك،
    في لمح البصر.
    خلع جُلبابه وأراهما خُدوشاً في ظهره وإليتيه: ضحكنا.
    (أُغنية الفِرِّو، تَيرابُ البِنَيِّة، بُوشَاي، وأَشْيَاء أُخْرى.)
    ذات صباحٍ باكر، أرسلت لي ألم قِشي ود أمونة برسالة شفهية، فهمت منها أنها تريد مقابلتي في بيت أدّي: الآن.
    المسافة ما بين بيت أدّي ومنزل مختار علي حيث أقيم وصاحبي، قريبة جداً وبعيدة جداً، يتوقف الأمر حسب العلاقات الاجتماعية مع الجيران و الوقت: ليلاً أم نهاراً، حيث يمكن استغلال ما يسمونه بباب الجيران لاختصار مسافة كيلومتر من الهرولة عبر الأزقة والطرق الجانبية، إلي ما لا يتعدى العشرين متراً، وشخص مثلي غالباً ما تكون علاقته جيدة مع الجيران، لذا دخلت منزل أول جارة وهي سُعاد، تبادلت التحايا وزوجها، ثم عبرت عرض المنزل إلى بيت الداية بِتْ البُرون، وهي امرأة عجوز طيبة بوجهها شُلوخٌ عريضة و ابتسامة دائمة، ليس لها زوج، ليس لها أطفال، بنت أختها التي تقيم معها، كانت نائمة في تلك اللحظة، تبادلنا التحايا، وعبر باب الشارع كان عليّ أن أعبر منزل الدينكاوية الحسناء أداليا دانيال ولم تكن بالمنزل، عَبَرتْ بيتها، لأجد نفسي وجهاً لوجه مع باب مُجمّع أدّي السكني.
    وجدتُ ود أمونة قد سَبَقَنِي لبيت أدّي ولكي لا أموت دهشة، قال لي إنه ركب موتر مع الحاج البوليس الذي وجده صدفة يمر بطريق منزل مختار علي، وذلك بعد أن أخبرني برسالة ألم قِشي مباشرة. أومأت برأسي أن فهمت، بادرتني ألم قِشس معاتبة
    . إنت ما سألت مني تاني؟ دا أسبوع كامل-
    أضاف ود أمونة، بأسلوبه الخاص:
    و حات ربي، ألم قِشي مما نامت مَعاك، تاني رجلها دي ما رفعتها لزول. -
    قالت ألم قِشي بصورة مباغتة وهي تنظر في أم عيني
    - أنا ما عجبتك ولا شنو؟
    أضاف ود أمونة
    - في زول ما بتعجبوا ألم قِشي؟
    قالت ألم قِشي بغنج وهي تحرك صدرها بما يشبه الرقص
    ، مزاج ناس المُدن صعب يا ود أمونة، ديل متعودين على البَنات الفي التلفزيون؟ يمكن-
    أضاف ود أمونة مخاطباً ألم قِشي برقة خبيثة فاجرة
    -إنتِ مَا إدخّنتِ ليهُ ولا شُنُو؟
    ادعت ألم قِشي الخجل، أما أنا فكنت محرجاً من كل شئ،مع وعيي التام بالشرك الذي أُصْطَادُ بِه، قُلتْ
    . العفو، العفو، ألم قِشي جميلة.. ونظيفة.. كل في الكل-
    أضاف ود أمونة
    -أنا حأدخِنها ليك الليلة وأدلِكها وأبقيها ليك عروس عديل كدا، قصرت معاك؟
    قلت له مجاملاً
    . إنت ما بتقصر، ولو إنها كدا كويسة معاي-
    قالت ألم قِشي
    . كويس، عايزاك في موضوع تاني. موضوع الشُغُل مع ناس شركة الاتصالات-
    -يعني خلاص وافقتِ على الشُغُل؟
    قالت دون مبالاة وهي تهزّ صدرها بتلك الصورة المُدهشة
    . قلت أجرِّب، يمكن ربنا كاتب لي رزق في مكان تاني-
    تعرف ألم قِشي أن العلاقة بيني وبين موظفي شركة الاتصالات الوافدة حديثاً للمنطقة هي عبرصديقي، تربطه علاقة شخصية بالمدير، وقد طرح عليّ فكرة أن تعمل ألم قِشي طباخة في مَيس الشركة، إذ إن الموظفين لم يحضروا زوجاتهم بعد، في انتظار اكتمال البرج والتوصيلات الأرضية، وإحضار الأجهزة الإلكترونية وغيرها من الأشياء التي تؤكد استقرار العمل، قلت لها
    . كويس، حأكلمهُ أقول ليه ألم قِشي وافقت-
    طلبا مني أن أشرب معهما قهوة الصباح، إلا أنني تعللت بارتباطي بمختار علي وصديقي في البيت، وأننا سوف نذهب معاً كما اعتدنا أن نفعل في الأيام الأخيرة إلى العجوز حيث نحتسي عندها القهوة، وأنا أخرج من المنزل سألني ود أمونة إذا ما كنت سأحضر في المساء، أكدت له ذلك، فغمز لي بعينه اليسرى بما يعني ما يعني، ابتسمتُ، أومأت برأسي مباركاً مساعيه وشاكراً.
    يبدأ صباحي كالعادة بكسل يتسم به العاطلون عن العمل ولديهم مصدر رزق يحول دونهم والموت جوعاً، وليست عليهم مسؤوليات أسرية: زوجة، أطفال، أم أو أب أو أخوات (مَطَالِيقْ) مثلي يبحثون، عن متعة المشاهدة لا أكثر، لدينا زبونة واحدة فقط نشرب عندها قهوة الصباح، عجوز شَمطاء، تستغل راكوبة بيتها لتقدم الشاي والقهوة للعابرين من الجنقو والعمال الآخرين، حيث يقع بيتها في أقصى الشرق على طريق همدائييت، حيث يعمل عدد من العمال على تأسيس طلمبة الوقود، ذهبت إليها وحدي إذ أن صديقي فضل (دخول) الحِلة، أما مختار علي فلبى دعوة جارة حبشية كريمة طلبت منه أن يشرب معهما وزوجها قهوة الصباح، وكما هو معروف لا يَرفض عيّنة هذه الدعوة إلا شخصٌ أهبل، فالناس يؤمنون هنا أن لا أحد يصنع القهوة بمهارة تفوق مهارة الحبشيات،أعدت لي العجوز قهوة وعليها كمية أكبر من الزنجبيل، وهي علامة أنني من مدينة كسلا، بينما أنا من مدينة القضارف، مرّ أمامنا شرطيان، يتبعهما شيخ الحِلة وبعض أعضاء اللجنة الشعبية، رموا علينا السلام ومضوا في عجلة نحو الطلمبة، قالت لي العجوز
    . أمبارح واحد من عمال الطرمبة ديل طعنوه-
    - طعنه منو؟
    قالت وهي تحرك جمرة صغيرة بملعقة السكر
    أولاد من المعسكر، -
    معسكر اللاجئين القريب دا، كانوا بيلعبوا القُمار مع بعض واختلفوا، كلهم كانوا سكرانين واقفين لَطْ.
    قلت لها:
    -إن شاء الله ما اتعوق شديد؟
    قالت بحسرة:
    - مات قبل شُوية في مستشفى الشجراب، شالوه بلوري عثمان عيسى لخشم القربة لكنُهُ مات في السكة.
    ثم أضافت
    . إنت ذاتك بتعرفُهُ-
    وأخذت تصفه لي، ولكني، وهي عادة سيئة عندي، عندما يموت شخص أعرفه معرفة غير عميقة، أقصد معرفة عابرة فإنني أنسى ملامحه، بل قد أتذكر أنني قابلته من قبل. الأمر الذي يكون سهلاً إذا مازال على قيد الحياة، لا أعرف ماذا وراء ذلك، هل هو خوف من الموت يقبع في لا وعيي و ينشط في صمت
    هو واحد من زبايني، أنت شفتو هنا في راكوبتي ذاتها-
    قلت:
    ؟ الود البرناوي-
    قالت ضاحكة:
    يشبه البرنو، ولكنه مُوُّلد.-
    وشرحت لي أن تسعة وتسعين في المائة من سُكان الحِلة ليست لهم أجناس. ليست لهم قبائل، كلهم مُولدين، أمهاتهم حبشيات بازاريات، بني عامر، حماسينيات، بلالاويات، أو أي جنس، وآباؤهم في الغالب إما غرابة: مساليت، بِلالة، زغاوة، فُور، فلاتة، تاما، أو حُمران وشكرية أو شلك ونوبة ونوير، وفي قِلة من الشَوايقة والجعليين، وكضاب الزول البقول عندو قبيلة هنا، ولا جنس ولا خشم بيت، قلت لها متحدياً
    -كويس أداليا دانيال؟
    قالت:
    . أداليا دانيال أمها دينكاوية، أبوها أشولي وراجلها لكويا-
    قلت:
    ؟ -إنتِ
    قالت
    -أنا أمي بازاوية، وأبوي أمو حبشية وأبوه مسلاتي وولدي متزوج من الحُباب من أسرة الكنتباي ذاتها، وأنت عارف الحُباب ديل ناس سَمحين، وكل الأجناس القلتها ليك دي هي مجرد أسماء ولكن في الحقيقة إنمحوا في بعض، بس الواحد فيهم بيتمسك بقبيلة الأب، وطبعاً دا كلام ساي، الدم كلهُ من الأم، والروح من الأم، والأبو دا عنده شُنو غير المُوية؟
    ثم أخذت تعدد لي الأشخاص وكيف خُلِطوا، وختمت حديثها بما يعتبر من المسلمات
    . أهلنا ديل يموتوا في الحبشيات-
    وحكت لي قصة الحاج الذي ألهاه الشيطان عن اللّحَاق بركب الحج، حيث تمثل له في شكل فرج أنثى على فرع من شجرة لالوب شائكة استظل تحتها بمصوع، في طريقه إلى مكة، حيث أخذ الحاج يرمي العُضو بالحجارة لكي يسقط في الأرض يهتز العضو، ويكاد أن يَسَقُطْ ولكنه يبقى في مكانه، وهكذا ظَلّ الحاج يرمي الحجارة إلى انتهى موسم الحج ولم يحظ بالعضو الجَيّدْ، ولم يُحْظَ بالحج.
    قلت لها:
    -الصافية دي شنو؟
    -جدها مسلاتي، أمها من الأمهرا من جهة الأم، فوراوية من جهة الأب، وبيتهم فيهُ البازاوي والحبابوي والقمراوي و الإنقريابي، والرباطابي وحتى الحلفاوي والمحسي والدنقلاوي.
    قلت لها:
    -كويس الجِنِسْ البينقلب مرفعين دا شنو؟
    قالت بطمأنينة العالم العارف
    . الحكاية كُلها في اللبن-
    صبت لي فنجاناً آخر من القهوة وهي تكمل حديثها
    الحكاية كُلها في اللبن، من جهة الأم، وخلط اللبن باللبن ما كُويس، الواحدة تخلي أطفالها يرضعوا هنا وهناك، وهي لافة من بيت لبيت وما عارفة الناس، فيهم تيراب البِنية البعاتي، وفيهم البنقلب غُراب، وفيهم البنقلب أسد أو مرفعين أو برطا برطا، وفيهم البياكل الناس عديل كِدا، وفيهم السَحّار، والبلد ملانة بالجن، تلقاهم في شَكل نُسوان ورجال وحمير وكَدَايِسْ وشَجَرْ، وربنا يكون في العُون. وحتى البُومة دي لو لقت طفل وحدهُ بِتْرَضِعُهُ، و ربنا يكرم السامعين: دا هو تيراب السَحَارين. اللهم أحفظنا وأحفظ المسلمين، آمين يا رب العالمين.
    قلت لها:
    ، مُشْ كِدا؟ أسرة الصافية هي أول أسرة في البلد هنا-
    قالت وقد بدأ عليها الارتباك قليلا:ً
    - منو القال ليك أسرة الصافية، الصافية السكرانة دي ربيناها نحنا في أسرتنا تربية، أمها ولدتها ورمتها لينا هنا وفاتت مافي زول يعلم وين، وأنا السميتها الصافية على جدتي، الأسرة الكانت هنا، هي أسرتي أنا. ثم حكتَ لي الحكاية الحقيقية وما عداها اعتبرته تشويهاً دافعه سوء النِيّة والجهل و الحَسَدْ، عندما جاء أهلها إلي هذا المكان، لم يكن به سُوى الثعالب، المرافعين القرود، الحَلُوٌفْ، أبو القدح، الأرانب والصقور والحُبار، وأحياناً يرى الناس بعض النُمور، كانت هناك غابات كثيفة من شجر الكتر واللالوب والهشاب وبعض السَيّال وعند الخيران وبرك المياه تنمو أشجار السُنُطْ، أما في الكَرَب وعلى شاطئ النهر فالعرديب والتبلدي، ولكن البلد مشهورة بالجن وأبي لمبة، منذ أن تغرب الشمس يخرج أبو لمبة، كانت أسرتها في طريقها إلي مدينة القضارف بعد أداء شعيرة الحج، حيث إنهم قدموا عن طريق اليمن، باب المندب، مصوع، الحبشة ثم إلى هنا، وقد داهمهم الخريف في هذا المكان، فأقاموا وبنوا أول منزل، قطع جدها وأبناؤه الأشجار، نظفوا الأرض وزرعوا محصول الذرة والدخن والسمسم، قالت:
    . دا قبل أكثر من مية، مية وخمسين سنة-
    حكت لها بذلك جدتها عن جدتها عن جدتها، وهكذا.... قالت جدنا الأكبر اسمو عبد الرازق وله توأم اسمو عبد الرزّاق، حبوبتي قالت، حبوبتها قالت ليها:
    كانا يعملان في تجارة الحطب والمحاصيل الزراعية التي ينتجانها، حيث يقومان ببيعها إلى الحبش في الحُمرة وبحر دار وحتى نواحي قُندر، قد يسافران لأيام تطول، بينما يبقى أبواهما في المنزل مع أختهما الصغيرة وهي التي تسمى الصافية، حكت لها جدة عن جدة عن الصافية، كان عُمرها لا يتجاوز العَشر سنوات، في ذلك الوقت ولكنها تتذكر إلي الآن اللحظة التي جاء فيها أخوها عبد الرازق التوم على رأسه طُوق من الحديد، مربوط بشكل محكم، عيناه محمرتان وبارزتان إلى الخارج ولسانه خارج فمه مثل لسان الكلب، ورغم ذلك كان صامتاً، فقط يصدر صوتاً من صدره مثل نداء البوم، فهب إليه أبوها وأمها وأخوها عبد الرزاق، والذي خرج من السجن قبل يومين فقط، تذكر إلى الآن جملة واحدة وهي:
    . أنا ممكون بالفرو-
    وكان جسده كله يتصبب عرقاً، أخذ أبي يقرأ على رأسه أيات من القرآن ولكن عبد الرازق قال له
    . المُبرد، المُبرد يا حاج-
    وفعلاً أتى أخي عبد الرزاق بالمبرد وقاما بقطع الفرو، وكانت لحظة عجيبة جداً
    كلنا أحسسنا بالراحة.-
    وكأنما هو وُلِدَ من جديد في تلك اللحظة، ولم يهتم أحد من الأسرة إطلاقاً بالهواء العظيم الذي اندفع من دُبر أخيها عبد الرازق، في شكل دوي هائلٍ مدهشاً سكون هواء الخريف الثقيل، ناثراً عُفُونة إسهال حبيس بئيس.
    ثم استفرغ، ثم نام.
    أيقظه أبوه في منتصف الليل، حيث أطعم، ثم نام مرة أخرى تاركاً الأسرة كلها قابعة قرب رأسه ينظرون إليه مندهشين، وكان عبد الرزاق بين حين وآخر يردد
    . أنا السبب، دا كله عشاني أنا-
    ولكن أمه كانت تخفف عنه بالقول
    . في النهاية أخوك، تكررها في قلق-
    قالت لي العجوز وهي تحكي باستمتاع وقد نسينا فنجاناً من القهوة يقبع في صمت فتساقط عليه الذباب، قالت تحكي: كان المساجين في الحبشة وإلى وقت قريب، لا يطعمهم السجن، يربطوهم يشحدوا في السوق والاندايات، وأثناء ما كان عبد الرازق يتناول طعاماً في سُوقِ الحُمرة مع أصحابه التجار، إذا به يرى توأمه عبد الرزاق مربوطاً ضمن عددٍ من المسجونين يسأل الناس طعاماً، كاد أن يقف قلب عبد الرازق من المفاجأة: تومي عبد الرزاق؟.
    أطعمه وأعطاه مالاً وقال له بلغة المساليت إنه سوف يأتي إليه يوم الجمعة في السجن، الجمعة التي بعد جمعتين كاملتين، يرتدي نفس الملابس التي يرتديها توأمه الآن، نفس الحذاء ونفس الطاقية، وسوف يطلب مقابلته وهنالك في السجن يتبادلان المواقع، وأضاف
    -أنا بعرف بتعامل مع الجماعة ديل كويس، أنا بعرف ليهم، أنا عشت مع الشِفته والفالول سنة كاملة.
    وبالفعل تبادلا المواقع في التاريخ المتفق عليه، ولكن في اليوم الثالث بلغ عنه المساجين الذين اكتشفوا الخدعة منذ اليوم الأول، بالرغم من أن عبد الرازق عبارة عن نُسخة أخرى من عبد الرزاق، كأنما الأول صورة للآخر في المرآة،ولكن طبيعة عبد الرازق تختلف بصورة جوهرية عن توأمه، حيث إن عبد الرازق كان يميل لنوع من الحياة لا يحبذها أخوه، حيث إنه كثيراً ما يختفي لشهور كثيرة باحثاً عن المغامرة والمتعة، الخمرة والنساء، مع قُطّاعْ الطُرق الأحباش في أحراش أثيوبيا، كان ملولاً، سريع الغضب وعنيفاً و يتعاطى كل ما حرم الله، ولم يصل أو يصم إلا في صغره، عكس عبد الرزاق تماماً، حيث كان طيباً مسالماً، ولو أنه ما كان ميالاً للعبادة إلا أنه كان لا يتعاطى المُسْكِرات ولا حتى الصعوط والسجائر.
    - قدر ما قلت أقلد أخوي عبد الرزاق؛ ما قِدرت خالص خالص ما قدرت، فالطبيعة جبل كما يقول الناس. وأخبر عنه المسجونون إدارة السجن علهم يجدون وضعاً مميزاً أو على الأقل يتجنبون المساءلة إذا اكتشف أمره السجانون، بأنفسهم. فقامت إدارة السجن بضربه ضرباً مبرحاً، ثم خيروه ما بين الخازوق أو الفرو، وكلاهما يعني الموت ببطء وألم شديد، فاختار الفرو، فَرُبِطَ في رأسه بأقصى درجة ممكنة وقالوا له:
    - لو ما جبت أخوك خلال نصف ساعة، حتموت، ومفتاح الفرو عندنا هنا في السجن يللا (قَلْتِفْ).
    في الثواني الأولى من ربط الفِرو، تمنى لو أنه وجد أخاه ليسلمه للسجانين حتى يفكوا من رأسه الفرو، ثم أخذ بالفعل يبحث عنه دون تركيزدون خطة، دون أمل، كان يصرخ في الطُرقات وهو يجري في كل اتجاه باحثاً عن لا شئ، كان يهتف باسمه، لقد أُصِيب بهلع شديد وحالة من التشتت، ولكنه كان يمضي بعيداً عن السجن على أية حال، كانوا متأكدين من أنه سيعود، حتماً سيعود أو يموت، ويعرفون أنه لن يموت بعيداً عن السجن، يهمهم في الأمر الفِرو الذي لابد من إعادته للسجن، جثته سوف يرمون بها في البئر المهجورة عند سفح الجبل.
    بعد لحظات بقيت أوعى، حسيت بنفسي، وتذكرت كيف الفالول يتعاملوامع الفرو-
    ادعى أن الذي يلتف حول رأسه ليس هو الفرو آلة الحديد القاسية المميتة؛ ولكن ثعبان، ثعبان قد يقتله بلدغة واحدة وقد يتركه في حاله إذا تعامل معه برفق وكلمه بالحسنى وأقنعه بالمنطق، ولأنه يريد أن يحيا ولا يرغب في الموت ملدوغاً من ثُعبان سام، عليه بسياسة النَفس الطويل، طولة البال، وأن يربط مهمة أن يخرج من الحدود الحبشية بترضية الثعبان، وأخذ يتلو نشيداً طويلاً بالتجرنة، كان نشيداً طويلاً يتكون من كلمات بسيطة قليلة:
    لا أموت لا أموت
    لا أموت لا أموت
    لا أموت لا أموت
    لا أموت لا أموت
    سوف أحيا
    سوف أحيا
    سوف أحيا

    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 الأحد 2 مايو - 17:38

    يتبع
    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 الإثنين 3 مايو - 7:50



    ويستمر النشيد في كلمتين هما سوف أحيا، ولن ينتهي إلى أن يطلق الثعبان رأسه.
    واتجه نحو الحدود السودانية، مهرولاً منشداً في اتجاه الغرب متجنباً طرق المشاة، السيارات، الحمارين، كل السكك المطروقة إلى همدائييت، اتجه جنوباً، قليلاً جنوباً، عبر غابة الطلح الصغيرة الواقعة على أرض حجرية صلدة حمراء، بها خوران وعران وبعض شجيرات الكتر الشوكية، تنبت ما بين هنا وهناك، يعرف هذا المكان جيداً، اشترى منه قبل عامين مائة قنطار من الصمغ العربي، مقابل عشر جوالات من السمسم الأحمر النادر من برهاني كِداني الحبشي الممسوخ كما يحب أن يسميه، وهو أحد أكبر الفَالول في نواحي خور الحمرة وغابة زهانة الأكثر وعورة ورهبة، اشترى منه الصمغ على علمه التام أنه لا يمتلك ولا رطلاً واحداً منه ولا يفهم في طَقْ الصمغ ولا لقيطه، وللمبالغة يقولون عنه إنه لا يفرق بين الطَلحة والكِترة، لكن ليس بإمكان المزارعين الفقراء البائسين أن يبيعوا صمغهم إلا من خلاله هو فقط، وبالسعر الذي يضعه، وكان غالباً لا يظلمهم ودائماً ما يحميهم من قُطاع الطُرق واللصوص الآخرين، إذا التقى به هنا سوف يساعده بدون شك في التخلص من الفرو، تبدو الشمس أمامه كبيرة حمراء مثل الدم تغيب الآن، يمضي نحوها، يعرف أنهم أطلقوه في هذا الوقت بالذات ليصعبوا أمامه خيارات النجاة، حيث إن الليل هنا عدو اللصوص أيضاً، في ذلك المغرب التقى بفالول وشياطين، فروا منه. وقبل أن يكتمل الغروب استطاعت ساقه أن تسلمه إلى البيت.
    عاد الشَرَطِيان،توقفا قليلاً عند العجوز، سألاها عن فتى باسمه ولقبه واسم أمه مصحوباً بكلمة الشَرمُوطَة نِكاية وغضبا عليه، قالت لهما:
    . مشى زهانة، معزوم مع أصحابه كلهم عيد القديس يُوهَنِس-

    حوارٌ مَوضُوعيٌ وَكَرَملا.
    أكدّ لي أن مشروع الصافية بالنسبة إليه لم ينته بعد، وأنه قرر أن يخوض المعركة إلى آخر طلقة، ولم يكن تصريحه هذا غريباً، فأنا أعرفه فيما يزيد عن الثلاثين عاماً من الصُحبة، القراءة المشتركة، السفر، الفشل، الإحباط، النجاحات الكبيرة، العمل والعطالة، سيكون تصريحه غريباً إذا قال لي إنه تنازل عما سمّاه بمشروع الصافية أو خاف،قال بثقة كبيرة.
    أنا بحلل وضع الصافية بالطريقة دي: -
    امرأة عندما تُثار جِنسياً، ينمو الصوف في جسها كله، تطول أظافرها، وأذنيها، تتحول ملامح وجهها إلي ما يُشبه ذئب كبير، أسدٍ أو حتى قرد، فتهاجم العشيق، فيهرب،وهي نفسها لا تكون واعية بحقيقة ما يجري لها. ثم طرح سؤالاً: الزول لو انتظر للنهاية حيحصل ليهُ شنو؟
    دعونا نفكر في هذا الموضوع بجدية، دعونا نفكر كيف نتعامل معها، يجب ألا نتركها هكذا تعاني وحدها هذه الأزمة الإنسانية الفريدة، نحن شُركاء على الأقل في الإنسانية
    نحن بشر، يعني، هنالك مسألة تخص الفرد، تخص الجميع، وما يخص الجميع يخص الفرد، مسألة مصير واحد، مآل واحد، ثقب واحد يجب أن نعبر به جميعاً نحو الحياة، أن يعثر أحدنا فيه، يعني ألا يمر الآخرون، وأخذ يهذي في كلام أعرف أنه يجيده والاسوأ أنه يؤمن به والأسوأ أكثر أنه سيفعله.
    قدمت له نصيحة لا تفيده، وقد تكون طوق نجاة لغيره
    . أتمنى أنك ما ترمي بنفسك في التهلكة-
    قال بقلق:
    . تقصد ما أتطفل-
    قلت ضاحكاً:
    . أيوه-
    قال:
    وجودنا هنا في (الحِلة) مُش نوع من التطفل؟! عندنا هنا شنو، غير ناس مطرودين من وزارة الصحة للصالح العام، كل يوم متطفلين على بلد من بلاد الله، وناس من ناس الله؟
    فهمت أنه يعني فيما يعني أننا طالما تطفلنا على المكان، فنحن أيضاً تطفلنا على الإنسان، والأمر سيّان. كان دائماً ما يكرر القول إنه يجب أن يَتَرُك أثراً واضحاً، أينما يذهب، وأن يُدْهِشْ، وهذا الأثر وهذه الدهشة، لا يتأتيان ما لم يفعل ما لا يستطيع فعله غيره وهم العامة والخاصة معاً، ويختصر ذلك بالقول
    اركب الصعب.-
    أينما حللنا، كان يبحث عن الصعب والصعب فقط، يبحث عن الغرباء في الناس، في المجتمع، في المكان في كل شئ، كان يتصيد السؤال ولا يخشى التهلكة، بل يرمي فيها نفسه رمياً، قلت له
    على العمل في ميس الشركة. إلم قِشي وافقت-
    قال مبتسما:ً
    . نسوقها للشركة معانا-
    أكلنا طعاماً طبخه هو ومختار علي من اللوبيا البيضاء والفرندو بالشرموط، اشترينا إنجيرا من بيت الأم، كان مختار علي دائماً ما يحتفظ بمخزون من الدليخ في قُطيته،
    حضرت ألم قِشي، وصنعت لنا القهوة بالزنجبيل والهبهان، ذهبنا الثلاثة إلى مقر الشركة جوار زريبة المحاصيل، حيث وجدنا العمال مجتهدين في بناء المؤسسة، لكننا استطعنا أن نلتقي بالمدير، وكان رجلاً قصيراً نحيفاً مبتسماً قليل الكلام مرحاباً مضيافاً أنيقاً، بعينيه حول يسير، شكرنا كثيراً، اعتبر قدومنا بألم قِشي لكي تعمل معهم في الميس، في هذا الوقت بالذات، عملاً إنسانياً كبيراً، بركة من الله ومساهمة في نجاح الشركة أيضاً
    نحن نحتاج لامرأة نثق بها لكي تعمل معنا، امرأة نظيفة تحمل عبء بطوننا-
    و أكد أن العمل قدى عزلهم عن المجتمع
    . لولا وجودكم أنتم في الحلة، ما عارف كان نحنا نعمل شنو-
    ولكني أحسست بمسحة غبشاء من الإحباط تعتري وجهه وهو يرحب بألم قِشي ويكيل لنا ولها الشكر، قالت ألم قِشي فيما بعد:
    . كانوا عايزين بت صغيرة في العمر، على الأقل أجمل وأخف مني-
    أضافت
    . حيقتنعوا إنُهُ أنا أجمل مرا في الدنيا-
    قلت لصديقي:
    - ربما كان صاحبك عايز ملكة جمال في مكان في طرف الدنيا تحيط به الغابات والخيران الموسمية ومن سكانه الأصليين القرود، هذا المكان البعيد، الأرض المهمشة النشأت أصلاً من المطاريد.
    تركنا ألم قِشي هناك ترتب أمر وظيفتها الجديدة وعدنا أدراجنا إلى السوق.
    الساعة تشير إلى منتصف النهار، عُمّال البنك يعملون بجد ونشاط، سيدرك البنك الموسم الزراعي القادم، ويُشاع أن هذا البنك سيغير خارطة الثروة والسُلطة وعلاقات الإنتاج في المنطقة لمصلحة محدودي الدخل، صغار المزارعين والفقراء، وسوف يقدم قروضاً وسلفيات إسلامية غير ربوية لكل منتج ومزارع، وقد اجتهد البعض مفسرين كلمة منتج، بأنه سوف لا ينسى أحداً ويشمل ذلك فيما يشمل الاندايات الكبيرة، تجارة الشنطة وبائعات عرقي البلح والفحامة، وفكر ود أمونة في بَارٍ صَغِيرٍ على شاطئ النهر، كذلك الذي يوجد على الضفة الشرقية من نهر سيتيت بالحُمرة، مطلاً على قرية همدائييت، يرتاده أصحاب المزاج والملاماتية ما بعد منتصف النهار، حيث يعبرون النهر سباحة، بالرغم من أنه يوجد داخل حدود دولة أخرى وهي أثيوبيا إلا أنه ليس لأحدهم جواز أو بطاقة ولا حتى ورقة تحمل اسمه، من جهة أخرى فإن السُلطات الأثيوبية لا تسأل عن شئ، سوف يُنشئ ود أمونة بَاراً يستقطب هؤلاء الفارين إلي الكيف العابرين الأنهار وسوف لا يخاطرون بحياتهم غرقاً.
    ويبدو أن فكرة التمويل لم تكن إشاعة، ولكن المحاضر الذي أوفده البنك يوم جمعة لا يُنسى قال كل ذلك، أو لم يقله، ولكن المؤكد أنه تحدث باستفاضة عن السَلَم والمبايعة والمشاركة، وأصّل لذلك بآيات وأحاديث وخطب وشهادات فقهاء وفتاوى وذكر فيما ذكر اسم عالم غامض لم يسمع به أحد في القرية وهو القرضاوي ربما إشتق إسمه من قرض: من يدري. لم يفهم العامة الشئ القليل من خطبته العصماء، ولكنهم فهموا المهم والذي يخصهم وهو:
    أن هناك قروضاً للجميع بدون فرز، وحق للجميع، بدون ربا، على سُنة الله ورسوله.
    كل هذا تفوه به الخطيب، ولم يجتهد الناس كثيراً في التأويل، وعلى بركة ذلك بادرت المحلية بتخصيص قطعة أرض مجانية للبنك لكي يُنشأ عليها، وسُمح باستخدام وابور المحلية لنقل الحجارة والرملة السفاية والطوب الأحمر بسعر رمزي يغطي تكلفة العمالة، وتحصل إداريو البنك المشرفون على إنشائه على وقود وكهرباء وإمداد مائي مجاناً ولوجه الله وحده وفي خاطر التنمية وابتغاء رفعة البلد، وللحاق بركب هذا العطاء المجاني سعى المقاول الذي يعمل بالتشييد بأن يحصل على عمالة مجانية للبناء من الجيش،طاما يجلس العساكر هنالك في ثكناتهم دون عمل، يلعبون الورق و الضالة، ينتظرون حروباً سوف لا تحدث في القريب العاجل، ولكن لسوء حظه أن قائد الحامية في ذلك الوقت كان جندياً يمتلك رأساً يُسمى في الخفاء: ناشفاً، لم يسعفه في تفهم التنمية والتطور ودور البنك العظيم المنتظر، فرد إليه طلبه مشفوعاً بتهديد شفاهي:
    - احذروا و احذزروا و احذروا، الجيش دا قايلنوا شركة دانفوديو؟
    سِوى هذا الصد الواضح، لم يجد البنك أية صُعوبة في الحصول على أي تسهيل ومباركة، بل أن مُعظم الناس كانوا يحسون بأن لهم واجباً ما تجاه البنك ولا يتأخرون في مدّ يد العون متى ما طُلب منهم ذلك، كان البنك بمثابة: مهدي المكان المنتظر. شربنا كركدي عند عزيزة الزغاوية، كان يجلس قربنا أثنان من السماسرة يتحسران لأجل سعر السمسم المنخفض في هذا الموسم مع أن الإنتاج شحيح، يتعجبان، لأنهما يريان أن انخفاض إنتاجية السمسم تؤدي مباشرة إلى ارتفاع سعره، هذا ما تعلماه من التجربة، الشئ الذي لم يحدث هذه الأيام.
    . دا آخر أسبوع لحصاد السمسم، تاني ما تبقى الحته-
    ولكن كان أحدهما متفائلاً بعض الشئ، لأن شركة السمسم حتى الآن لم تدخل السوق لشراء متطلباتها السنوية من السمسم لأجل التصدير
    . حيرتفع.... حيرتفع أكثر من السنة الفاتت-
    وهنا تدخل صديقي قائلاً
    . السبب إنتاج الفول... الفول السوداني.... وبرضو عباد الشمس-
    ودون أن يستأذنهما طرح من رأسه سيلاً من الأرقام مدهشة عن إنتاج الفول السوداني وعباد الشمس في هذا الموسم، ثم تحدث عن سعر رطل الزيت من الاثنين.. إنه ينخفض، وسوف ينخفض أكثر، وربط ذلك بالمستخدم من السمسم في زيت الطعام والحلوى وكيف أن الفول السوداني الرخيص حلّ محله وزيت عباد الشمس النقي الصحي منخفض الثمن المفضل لدى المصدرين أصبح إنتاجه ضخماً، ثم أسهب في الحديث عما أسماه بـ مستقبل إنتاج السمسم في السودان، هل سيصبح مثل مستقبل إنتاج القطن والصمغ العربي؟!
    نظرا إليه باستغراب، سأله أحدهما بعفوية
    إنت في الأمن؟ مما جعلنا جميعاً نضحك في وقت واحد.-
    قال له صديقي:
    . لا، أنا من القضارف-
    قال الرجل هو يحملق في وجه صديقي
    -نعم... عارف... إنت الزول العندك حكاية مع الصافية؟ لكن إنت شغال شنو؟
    قال له صديقي وقد ظهر عليه بعض الغضب
    . البلد دي غير القوالات والإشاعات ما فيها شي.. بلد نكد-
    قال الآخر محاولاً الخروج من موضوع الصراع
    . كدي أحسن نشوف موضوع السمسم-
    وقطع الحوار صوت أبواق سيارات ونهيق ونباح بربارات ولاندروفرات مختلط بزغاريد نساء وصبايا، غناء وجلبة، ثم عمّ المكان الغبار المختلق من رفس إطارات السيارات على الأرض، قالت عزيزة الزغاوية مستنكرة
    . دا زمن عرس؟؟ لسع الحصاد ما انتهى-
    قال أحد السماسرة مقرراً أمراً قد يبدو معروفاً للجميع
    -العريس دا قايلاه منو؟! دا محمد عوض، سوّاق باربارة البرناوي، ديل بيعرسوا في أي وقت.. طالما الخريف انتهى وانفتحت الشوراع، دي مرتو التالتة.
    السيرة مكونة من عشرين باربارا، خمسة لاندروفرات، بص همدائييت وبص الشُواك، لوري الحفيرة، تراكتور بمقطورة يتبع لأحد التجار من زهانة، المغني المتفرد ود أمونة، يصدح بصوت نسائي عليه بحة خفيفة ربما نتيجة للسهر وتعليم العروس وشرب القهوة الكثير في بيت العرس، حيث لا تنطفئ نار القهوة لما يزيد عن الأسبوع، يتبعه كورس من الصبيات والنساء في حماس وإثارة.
    علّق أحد السماسرة في ضيق
    ؟ الله يسخته... ما بتعرفو، مرا ولا راجل-
    ضحكت عزيزة قائلة
    . دا ود أمونة وبس.. هو كدا-
    قال السمسار الآخر
    . دا زول مُخنث ما نافع... والله لو ولدي كنت حأكتلو عديل كدا-
    قال عزيزة:
    . مالك ومال الزول دا ربنا الخلقُهُ عايزو كدا-
    ثم أضافت
    -إنتو عارفين إتزوج منو؟
    قلت:
    . لا، بالتأكيد-
    قالت:
    . إتزوج زينب بت أبرهيت الفلاشاوي-
    قلت مندهشا:ً
    . الفلاشاوي... يعني من الفلاشا-
    قال أحد السماسرة:
    -أيوا.. وقالوا الفلاشا ديل يهود، همْ ذاتهم الباعهم جعفر نميري لإسرائيل، مُش كدا؟
    قال جملته الأخيرة موجهاً كلامه إلى صديقي
    قلت:
    -ولكن هنا في فلاشا؟
    قال السمسار:
    . أسرة واحدة، هي أسرة أبرهيت ولدو إسحق-
    قالت عزيزة:
    . ولكن أبرهيت دا مسلم، قاعد يمشي صلاة الجمعة، كل الناس شافوه-
    قال أحد السماسرة:
    . اليهود ديل فيهم المُسلم وفيهم الكافر، زيهم زي الجن، فيهم المُسلم وفيهم الكافر-
    ثم أضاف،
    وفي مسلمين يهود عديل كدا، وديل الما بيصلوا ولا بيصوموا ويأكلوا الربا ومال اليتيم، ديل شُنو، مُش يهود؟ ثم أضاف فيما يعني أنه لو وجد أي إسرائيلي أو دولة تشتري منه الفلاشا، لباع لها أبرهيت وأسرته جميعاً ليغنى للأبد، ديل بيعهم مُش حلال؟! ربنا ذاته ما حرّم بيع العبيد، سيبك من الفلاشا.... مُش كدا؟
    أومأت برأسي أن نعم، وكنت أعني بيني وبين نفسي أني: امتنع.
    همس صاحبي في أذني، الذي كان يتتبع النقاش بانتباه كبير
    -لازم نزور أسرة أبرهيت دي، أنا أتمنى أشوف وأحاور يهودي، فلاشا ولا أشكناز ولا سفرديم ولا أي يهودي تاني، حتى لو كانوا بَني قُريظة أو بني النَضير.
    قلت له:
    -أنا مُشْ حأمشي معاك، كِفاية العملية العملتها في الكنيسة الأسبوع الماضي مع الأم مَرَيَم كُوِدي راعية الكنيسة.
    قال مُحتجاً وقد علا صوته فجأة:
    -عملتها أنا ولا عملتها هي، أنا كنت عايز أقيم معاها حوار موضوعي عن الأديان، وقصدي شريف جداً، ولكن الأم مريم ما فهمتني واعتبرتني مُخرِّب، هي عايزة تتحاور معاي كمسلم عربي وأنا عايز أتحاور معاها كإنسان يتبنى كل التُراث الروحي للبشرية بما فيه الدين المسيحي نفسه، وكما تكلم زرادشت للفيلسوف نيتشه وكتاب الطبقات لود ضيف الله،غيرها من السرديات الكُبرى و الصغرى، قلت له.
    . إنت طريقتك في تناول المواضيع هي المشكلة وليست نواياك-
    وخوفاً من أن يُقال إني تركته في محنة جديدة وحده ذهبت معه.
    الذهاب إلى بيت أبرهيت لم يكن صعباً، فالبيت كان متاخماً للسوق، وأبرهيت نفسه معروف ومشهور كما أن الذهاب إلى منزل فيه مناسبة عُرس كان أسهل الأشياء هنا،
    ونحن نطرق الباب، طلبت منا الصبايا وبعض النساء أن ندخل مباشرة، ومافي داعي لدق الباب، الشئ الذي أدهشهن، ونحن نرفض الدخول دون إعلان، فإذا بأبرهيت يأتي مبتسماً، طويلاً يلبس بنطلوناً وقميصاً نظيفين وربما جديدين، وبلكنة أمهراوية سَلّم علينا وهو يسحبنا إلى داخل ديوانه، ونادى بصوت خفيض لإبنته التي جاءت وفي يدها الماء والحلوى والأمبابا والابتسامة الساحرة تحلق في فمها الصغير الحلو.
    انحنت الصبية العشرينية أمام كل واحد مِنا، وهي تصب الماء من وعاء زجاجي أزرق في أكواب عليها علم وأسد أثيوبيا الشهيرين: همس صديقي في أذني قائلاً في إثارة واضحة وانفعال باللغة الإنجليزية.
    أسد صهيون. The Lion of Zion
    -
    تجاهلت همسه حتى لا ألفت الانتباه، رحّب بنا مرة أخرى، فباركنا له زواج ابنته زينب من محمد عوض سائق البربارا، وتمنينا لهما بيت المَال والعِيال وسترة الحال، قال
    . الجبنة جاهزة، والفطور برضو جاهز-
    اعتذرنا بأننا شربنا الجبنة مع عزيزة الزغاوية وفطرنا في المنزل، ثم دخل صديقي إلى الموضوع مباشرة ودون مقدمات وبوضوح تام عُرف به وتهور.
    في الحقيقة أنا أُعْجِبتْ بالطريقة الذكية البليغة التي حسم بها أبرهيت الموضوع، في هدوء ورباطة جأش، وكأنه كان يعد الإجابة منذ أن وُلد قبل خمسة وخمسين عاماً خلت،و أنه أجرى عليها تجارباً كثيرة واختبارات صحة وخطأ في شتى أصناف البشر وأحوالهم، وربما الحيوانات والجن أيضاً للتأكد من مدى صلاحيتها، قبل أن يتبناها أخيراً كإجابة نموذجية تصلح رداً شافياً كافياً لكل المتطفلين والمتحشرين والمتسكعين الكسالى، الذين لا همّ لديهم سوى البحث عن الغوامض، مثيري الأسئلة، المتشككين، ضعيفي الإيمان، والمتطرفين من الناس والجن وهوام الأرض كافة:
    قال بصوت واضح، بينما كانت عربات السيرة تدور في الخارج، وصوت ود أمونة يصدح بأغنيات بنات رائعات محفزات للرقص، وابنته العشرينية تضع مزيداً من الأمبابا على وعاء الحلوى وهي تتفحصنا بركن قصي من عينيها الكبيرتين، وتنصرف لتستقبل السيرة في الخارج، قال:
    . أنا مسلم-
    تفحص وجهينا وابتسم ابتسامة بُنيّة قبل أن يواصل كلامه،
    أنا مسلم، مسح وجهه براحة كفيه، قبل أن يضيف في حدّة،
    وأشهد أن لا إله إلا الله،
    وأن محمداً رسول الله
    وأقيم الصلاة،
    وآتي الزكاة،
    وأصوم رمضان
    وأحجُ البيتَ إذا استطعتُ إليه سبيلاً.
    ثم أضاف في برود كالصقيع، بينما هو يحاول الاحتفاظ بابتسامة دائمة لئيمة:
    . - يلا مع السلامة، وقولوا لمدير الأمن أبرهيت ولدو اسحق يَسّلمْ عليك
    وبذلك قال لي صديقي فيما بعد أكد أنه يهودي، ويهودي متطرف.
    ونحن نخرج من الباب معتذرين خائبين، وناكرين لصلتنا بالأمن، إذا بابنته العِشرينية الجميلة على الباب مباشرة،كانت تصتنت للحوار الذي دار بين صديقي ووالدها، الحوار القصير جداً، حيث إن صاحبي سأله: هل أنت من يَهود الفِلاشا حقاً؟
    كَانَتْ جَمِيلةٌ،فِي فِستَانِهَا الأبَيَضِ العَشَائِري، وَبِلِسَانِهَا الذي أَخْرَجَتَهُ إلينَا، فِي حَركَةٍ لإغاظتِنَا، بقعٌ صَغِيرةٌ سَودَاءَ، وَرَائِحَةُ حَلَوَى كَرَمَلا.
    (ألَم قِشِي، قَطْعَ الرَحَطْ والدُخْلَةَ.)
    جلس أمامي في بنبر كبير ود أمونة، كانت عيناه تشعان بهجة وغموضاً ويبدو أنه يود أن يقول كلاماً مهماً ولكنه يحتاج لمفتاح ما، وأعطيته إياه عندما سألته
    - في شنو؟
    قال وقد مد ساقيه النظيفتين وهما يلمعان في ضوء المصباح
    -إنت عَارِفْ أنا طالبك كم؟
    قلت له بأسلوب مشجع
    - كَمْ؟
    قال وهو يستخدم أصابع يديه في الحساب بطريقة طفولية ويحرك عينيه في غاية الغواية والنسوانية.
    - ثلاثة جنيه ونص دي حطب الدُخان والطلح، سَمِحْ؟! سبعة جنيه ونص دي، حق الدلكة إشترينا من أدّي، سَمِحْ؟! خمستاشر جنيه بتاعة الصابون و كلونيا الحمام،خمسة جنيه دا حق شُغُل الدلكة الأنا دلكتها ليها، حَقْ يديني ديل، ومد يديه بطريقة بناتية لا تخلو من غنج، خمسة جنيه دي، حقت شيل الجسم والله شلت ليها أي شعرة في جسمها خليتها تلمع زي القمر، وحتشوف براك، والجنهين ديل بتاعة صُبَاع أمير، سَمِحْ؟
    قلت مندهشاً
    - صُباع أمير بتاع شُنُو ؟
    قال وهو يضحك باستمتاع خاص
    . حتلاقيه قدام، وحيعجبك-
    قلت:
    - إذن الحساب كُلهُ كم؟
    قال مبتسماً:
    - خمسين جِنِيهْ و بس، سَمِحْ؟
    أعطيته ستينَ جُنيها، أعد بسرعة البرق الشيشة، طلب مني أن يدلك جسمي بالدلكة مجاناً، أو ينظف ملايني فاعتذرت بأدب، قام بتغيير الملاءات وأحضر لبناً وحساءً وعصير كركدي، أعد أدوات صُنع القهوة، أحضر مسجلاً كبيراً به سماعتان خارجيتان، كان قد فعل كل ذلك بسرعة، بهدوء وبإتقان وحرفية يحسد عليها، قال لي
    . الحمام جاهز، الموية دافية، أخير تلحقها قبل ما تبرد-
    ناولني بشكيراً جديداً، فرشة أسنان وصابون لوكس ومضى أمامي يُرَقِص ردفين كبيرين،
    كان الحمام عبارة عن بِنَاية صغيرة من القَشْ، القنا وأعمدة أشجار السُنط، لا سقف له، بأرضيته حوض كبير من الأسمنت وبنبر من البلاستيك وجردل به ماء ساخن، بابه من الزنك يتم ربطه عند الدخول بحبل قصير على عمود من حطب السُنط، يوجد فانوس يعمل بالجاز يقبع في ركن بَعيدٍ عن مرمى الماء، بوعاء بلاستيكي صغير يسبح على سطح ماء الجردل أخذت استحم، أنا في العادة أطيل البقاء في الحمام، أغسل جسدي جيداً، مرات عديدة وألعب بما تبقى من ماء، أحب الماء، وعندما يكون دافئاً أحبه أكثر، اليوم كان دافئاً ومعطراً وساحراً، كنت أحس بفرح عظيم يغمرني وإحساس لا أعرفه تجاه ود أمونة، ألم قِشي، بيت الأم، المكان... المكان كله. بعد أن أحسست بأنني قد غسلت جسدي جيداً، تجففت بالبشكير الأبيض الكبير الذي تفوح منه رائحة الصندل، ومضيت نحو القطية، وجدت القُطية غارقة في دخان الكَبَريتْ، تقف في منتصفها ألم قِشي التي لم أستطع تمييزها في بادئ الأمر، حيث كانت ملتفة تماماً بثوب من القرمصيص، يستخدمه العرسان، ولولا أنني شاهدت ود أمونة يقف أمامها مباشرة، لظننت أن الذي يلتف بالقرمصيص هو ود أمونة نفسه، لا أدري لماذا فكرت بهذا الشكل، وبمجرد دخولي، ضغط ود أمونة على المُسجل الكبير ليغرد بالغناء فنان بناتي له إيقاع سريع راقص، على كلمات:
    اللولْ
    اللولْ
    لولْ لِيّ
    يَسْحَرُوكْ يَا لُولَة الحبشية.
    لولية إنت ما صعبة، في الخرطوم أنا مُغْتَربة، أنا بَحِبْ كسلا وأديس أببا.
    وأخذت ألم قِشي تهتز مع النغمات والإيقاع، كفيها في وجهها، قال ود أمونة وهو يأخذ بيدي، يقودني نحو ألم قِشي
    . تعال أقطع الرحط، وافتح وش عروستك-
    دون أن أقول شيئاً مشيت مثل المنوم مغنطيسياً نحو ألم قِشي وأدخلت يدي بين ملابسها وفي وسطها وجدت حبلاً رقيقاً من السعف، قمت بقطعه وألقيت به في الأرض، التقطه ود أمونة وأخذ يزغرد ويلوّح به في الهواء مسروراً: أيوي.. أيوي..
    بصوت منخفض بقدر الإمكان، وانطلقت ألم قِشي ترقص وهي تهز ردفيها وصدرها ويديها ورأسها، قدميها وساقيها وكل ذرة في جسدها، مما جعل القرمصيص الناعم يسقط من جسمها على الأرض، وتبدو واضحة أمامي، كانت ترتدي فستاناً قصيراً جداً بحمالتين عبارة عن قطعتين رقيقتين من القماش تمران على كتفها وظهرها، فستانها الأسود، المشغول بخيط ذهبي يشع ضوءاً وعيداً، رائحتها تملأ المكان عبقاً جميلاً، كانت تبدو مثل عروسٍ في سبعينيات القرن الماضي، تلبس في عُري ساحر، كنت أقف مندهشاً أنظر إليها وهي ترقص، ود أمونة يساعدها على الإداء بالتصفيق والزغاريد. قال لي ود أمونة بعد أن أكملت ألم قِشي رقصتها.
    . مبروك يا عريس، الليلة يوم دُخْلتَك-
    أوقف زر تشغيل المسجل، بدى لي غير راضٍ تماماً عن أدائي، لاحظتُ ذلك من حركة شفتيه، وما قامت به عيناه من مسح كامل شامل لهيئتي، وخرج. كل شئ مرّ كالحلم تماماً، لاحظت ألم قِشي أنني لا أبدو في كامل وعيي، لأنها أخذت تلاحقني بسؤال عن حالي بإلحاح كبير، بقلق أجلستني على السرير الكبير الذي أعده ود أمونة بإتقانه المعهود. وسألتني ما إذا كنت أرغب في شرب القهوة، قلت لها
    لأ.-
    فطوقت نصفي الأعلى بساعديها، غمرني عطر نسائي بلدي قوي مُنعش، مما جعلني أفيق فجأة، كانت تجربتي مع النساء قليلة، وكل ما عرفته عنهن في الواقع كان عن طريق ألم قِشي، في المرة السابقة، أحسستُ الآن عليّ أن ابدأ من جديد، وراودني الخوف من العجز وعدم المقدرة على الفعل مرة أخرى، الحق يُقال، خفت من ألم قِشي وتمنيت أن يبقى ود أمونة، إنه شخص مرح ولو أنه عملي أكثر مما هو إنساني، إلا أنني كنت دائماً أحس معه بالطمأنينة على الأقل لأنني لا أتوقع منه أن يختبر مقدرتي الجنسية، إنه غريب وغامض ولكنه مؤنس وأشعر بأمان قربه.
    قلت لها:
    . أعملي لينا جبنة-
    قالت:
    . كويس-
    نهضت من قربي، قالت لي
    . قوم-
    وأخذتني من يدي، قالت بصوت هادئ وقد جعلتني أقف في مواجهتها
    -إنت خايف... مُش كدا؟
    قلت مكابراً
    -من شنو؟
    قالت وهي تطوقني بساعديها من خصري غير مبالية بسؤالي
    ؟ من عروستك-
    قلت وقد أحسستُ بأنني حُوصِرتْ
    . بس-
    قالت مقاطعة
    عشان نحن عملنا ليك عرس؟ قلنا عايزنك تنبسط، وإنت....-
    قلت لها مقاطعاً
    . أنا مبسُوط-
    قالت وهي تضع رأسها على صدري
    . تعال ننوم سوا بعدين نعمل الجبنة، إنت مُش نَعسَان تعال أنومك-
    أخذت البشكير من على كتفي ورمت به بعيداً على بنبر في أقصى القُطية، اطفأت النور. سألتني سؤلاً مباغتاً وهي تتحسس جسدي
    -صاحبك وين؟
    قلت لها:
    . مع مختار علي-
    سألتني
    -لسع ما عايز يسيب الصافية؟
    قلت لها:
    . زول راسه قوي-
    قالت لي وأظافرها تغوص في شعري
    - وإنت، راسك كيف؟
    ضحكنا، قالت:
    -أنا بحب الراجل البيتجرس، وإنت واحد منهم.. عارف نفسك؟
    قلت لها وأنا أدفن أنفي تحت ضفائر شعرها ما فوق أذنها
    . أشرحي لي أكتر-
    -عندنا هنا الرجال في القرى دي بيتعاملوا مع النسوان زي ما بيتعاملوا مع السمسم. أمسك، أقطع، أجدع.. ولكن إنت راجل جرسة، بتصرخ.
    ضحكنا قبلتها، كانت لها شفة ليّنة أحسست بها تذوب في فمي مثل عجينة من الزبد والحلوى.

    استيقظنا في الصباح الباكر على صوت ود أمونة منادياً ألم قِشي، فتحنا أعيننا في لحظة واحدة، كان يقف أمام السرير حيث إننا تركنا الباب مفتوحاً، كان يرتدي جلباباً أبيض نظيفاَ، وجهه حليق، شاربه كث في نظام ودقة، كان فرحاً ونشطاً وطليق اللسان كعادته، بارك لنا الدُخلة التي كانت من إنجازه، بل أحد أعماله الفنية، حيث إنه كان منتعشاً ونشوان، عرفت فيما بعد أن ود أمونة قد يصل إلى ذروة اللذة إذا أنجز عملاً بصورة يعتبرها كاملة، مهمته الأساسية هي أن يجمع امرأةً برجل وأن يستمتعا، خاطبنا قائلاً
    - موية الحمام حتبرد، مُش عايزين تستحموا، أنا ما حأجيب ليكم شاي ولا فطور إلا بعد أشوفكم مستحميين نظاف وظراف زيي كدا، واستعرض ملابسه ووجهه، قالت له ألم قِشي بصوت ناعس وهي تتحرر من الغطاء برفسات متتاليات
    خلاص، زح شوّية ألبس ملابسي.-
    فادعى ود أمونة الإنشغال بترتيب بعض الأشياء بالقطية، فلبسنا ملابسنا وخرجت ألم قِشي خلفي نحو الحمام، تحمل بشكيراً كبيراً، الحمام خلف الراكوبة، ما يقل عن عشرة أمتار من القطية، دخلت خلفي وهذا ما لم أكن اتوقعه، ساعدتني في خلع جُلبابي، خلعت ملابسها بسرعة رهيبة، أشارت إليّ أن أجلس على البنبر، سألتني ما إذا كانت هناك امرأة حممتني من قبل؟ قلت لها أمي فقط، قالت إنها كانت تتوقع ذلك، عملت الليف في ظهري وأرجلي وفخذيّ وذراعيّ، شعر صدري الكثيف منعها من استخدام الليف فاستعاضت عنه بكفيها الناعمتين، كانت تغني بالأمهرا بصوت خفيض حِلو، قالت لي وهي تشير إلى مكان حساس في جسدي.
    . حأكلم ود أمونة يحلق ليك-
    فزعت من الفِكرة، ولكنها أكدت لي أن ود أمونة خبير في حلاقة هذه الأمكنة وهو حلاق قائد المنطقة العسكرية وعميد الشرطة أيضاً، وذكرت غيرهما كُثر، قلت لها أنا لا أحب أحداً غيري أن يقترب من تلك الأمكنة، ضحكت، كان الصباح رائقاً وهادئاً، المكان يخلو تماماً من أصوات الجنقو المعتادة، حيث إنهم لم يعودوا من المشاريع، كان صوت الأم تحكي شيئاً لود أمونة يبدو واضحاً وجلياً، بعض أسراب الطيور تذهب في جماعات نحو الشرق، تمتلك ألم قِشي جسداً أنثوياً مثيراً واعتبره بالرغم من خبرتي الفقيرة في النساء، جسداً مثالياً حيث إن النساء اللائي أحب النظر إليهن كثيراً ويثرن إعجابي، هن اللائي لهن أفخاذاً كبيرة، وأردافاً عريضة وألم قِشي بالرغم من نحافتها كانت واحدة منهن، قالت لي وأنا أحدث نفسي عنها في صمت.
    أُمبَارِح كان يوم كويس ولا لا؟-
    . كان أجمل يوم في حياتي، إنت رهيبة-
    ابتسمت عن رضاء، ولم تقل شيئاً
    في الحقيقة بعد هذا اليوم أصبحت مُحْترفاً في النساء، أو ظننت أني كذلك، ولكن ما يزال هنالك عيب فيّ، هل كل النساء يعرفن كيف يتعاملن مع الرجل الذي لا يعرف شيئاً عنهن؟! الرجل الذي دائماً يحسُ أنه عاجزاً عن ممارسة شئ ذي فائدة معهن، إذن.. هل بإمكاني أن أعرف امرأة غير ألم قِشي؟! أم أن خوف الفشل هو الذي سيبقيني سجين هذه المرأة العجيبة؟! قالت لي وأنا أحدث نفسي عنها في صمت: إنت راجل ما نافع.
    فَوائدُ مَا بَعد الحفل
    تأقلمت ألم قِشي على الحياة الجديدة في سرعة فائقة، أحبت عملها ولو أن المبلغ الذي تتقاضاه مقابل القيام بإعداد الطعام وترتيب الميس لا يساوي نصف ما كانت تحصل عليه في العمل في بيت أدّي كفتاة مبيت، إلا أنها كانت كل مرة توجد لنفسها مصدراً آخر للدخل، مثلاً، طلبت من الموظفين ألا يأخذوا ملابسهم إلي الغسال، هي ستقوم بذلك وبصورة أفضل، لأنها سوف لا تخلط الملابس مع بعضها، ستغسل لكل فرد على حدة وذلك حتى لا يختلط عرق شخص مريض بشخص سليم، فتنتقل العدوى: وحتشوفوا الفرق.
    ثم ابتكرت فكرة بيع الملابس والمصنوعات القطنية الحبشية المتميزة بالتقسيط المريح لعمال وموظفي الشركة وأصدقائهم، حتى يتمكنوا من أخذها إلى أسرهم عند عودتهم الشهرية إلى مدنهم، ومواطنهم الأصلية، ثم أخذت تبيع أشرطة الكاسيت الحبشية والزائيرية والأحزمة الجلدية الأصلية والجزم الإيطالية المهربة من أثيوبيا، ثم الجِنْ، البراندي، الأنشا، الكونياك، ثم الكوندوم والفياجرا وعقاقير فتح الشهية، ثم زاد دخلها بصورة ملحوظة عندما استضافت في بيتِ أدي، في خَميس بُنِي، كل العاملين في شركة الاتصالات وأصدقائهم من العاملين في تشييد البنك، ضباط المحلية، بعض قادة الجيش والشرطة، ثم نفراً من أعيان البلدة، وفرت لهم ما لذّ وطاب من شواء بالسمن والعسل، وشيشة معطون تمباكها بالاستيم، الذي يحل محل الماء كذلك، ثم فاجأتهم بالمغني العجوز آدم بلالة في صُحبة الأم كي كي ورفقة أجمل سبع بنات في الحي الشرقي، صفية إدريس، الملقبة بصفية ناسات، سنايت، وليس هناك أفضل من ساقي سنايت إذا رقصت، أميرة الدبابة وهي خِلاسية نجلاء ردفاء، مناهل سعيد، شهيرة بمناهل النوباوية، وهي فتاة تتصف بعنق طويل ناعم مصقول، أمها يمانية وأبوها من الحمس، أمونة بت خدوم.. وهي امرأة قدمت من مدينة القضارف مؤخراً في صحبة أمها الجنقوجوراية، ولكن لما تتصف به من جمال وفصاحة وثقافة أخذت موقعاً متميزاً بين نساء الحلة، ولا يمكن أن تنسى في مثل هذه الحفلة التاريخية، أستيرا كيداني بشير، وهي أيضاً من الذين قدموا حديثاً للحلة من الحُمرة، حيث إنها كانت تسكن فريق قرش، تماماً جوار شجرة الموت، وهي تعمل بارستا في البار الخارجي على شاطئ نهر سيتيت المقابل لهمدائييت، ولكنها اتهمت بقتل إحدى زميلاتها في العمل، فهربت إلى الحِلة، جميلة صريحة وواضحة، لا تتحدث اللغة العربية إلا بصعوبة، بوشاي شول، أبوها من الشُلك، أمها من
    الحُمران، وهي مغنية لا تقوم لحفلة قائمة إذا لم يصدح فيها صوتها العذب، وقد كتب فيها أحد صعاليك الحلة أغنية:
    جَنَى البَابَايْ، إنتَ يا بُوشايْ
    الحِلو زي مَنْقايْ، بَرِيدُو وَايْ..... وايْ... وأأيْ.
    ولكي يكتمل الحفل كان لابد لود أمونة من أن يكون حاضراً، نظيفاً ظريفاً رشيقاً، تراه في كل مكان، لا ينجو أحدٌ من خدماته السريعة المتقنة، ولا من عطره القوي أو صوته الخفيض الهادئ. رقص، غنى، دوبى، مدح، وعقد صفقاتٍ سِرِيةًّ سَرِيعةً مع من شاء فيما يشاء، بدءاً بالخمور المستوردة انتهاءً بالبنيات وكل له سعره، الفتاة، العزباء، المتزوجة، الأرملة، المحافظة، الشرموطة، الجن الويسكي، الأحَجِبَة و التَمَائِمْ،المِحَايَة، الأنشا، البيرة، الكونياك وحتى عرقي البلح، المريسة، والعسلية مع خدمة توصيل الطلبات إلي الموقع، نسبة لما يتميز به الموظفون من عِفّة وتأفف وكثير من الخجل والحرص، يمنعهم من الحصول على الخدمات في مواقع إنتاجها، ولكن الله يخلي ود أمونة، حلال الكرب، لم يضايقه سوى طلب همس به أحدهم إليه في أذنه، وأكده بقرصة مباغتة في إليته، غمز بعينه اليسرى وحركة لسان
    . أنا عايزك إنت يا ود أمونة إنت في رُوحك دي يا ود أمونة-
    قال لي ود أمونة فيما بعد، إنه أحسّ أن الدُنيا أظلمت في وجهه، بالرغم من أنه ليس هذا هو الطلب الأول الذي يقدم له في شأن نفسه، وليست هي القرصة الأولى، ولا الغمزة الأولى، ولا هي أول حركة لسان داعرة يُلوّح بها إليه، ولكن لا يدري لماذا أدهشه هذا أكثر، قال
    . قلت ليهو تعال بُكرة في بيت أدّي هنا، تلقاني قاعد -
    ولكنه لم يحضر، فسألت ود أمونة، ماذا كان سيفعل به إذا حضر، قال لي وهو يضحك، بطريقته الملتوية التي تجعله دائماً في موطن التشكك و الظن:
    - بصراحة بصراحة.... الزُول دا عجبني، و الحمد لله انهُ ما جاء.
    كان حفلاً جميلاً مرّ بهدوء،استمتع به الجميع، حضرناه مع غيرنا من مواطني المدينة، حيث أن من لم يدعَ رسمياً هنا، فهو مدعو عُرفياً وعن طريق العادة. خسرت ألم قِشي لإقامة هذا الحفل مالاً كثيراً، ولكن فوائد ما بعد الحفل كانت أجدى. قلت لألم قِشي ونحن في بيت الأم حيث اعتدنا أن نلتقي:
    . تجارتك بقت كبيرة، وبقيتي غنية-
    قالت مدعية البراءة
    ناس المدينة يحبوا الملابس الحبشية.-
    قلت بمكر
    وتاني.-
    قالت في مَكرٍ.-
    . الأشرطة الحبشية والزائيرية-
    قلت
    - وتاني؟
    قالت بتحدٍ
    تقصد شنو؟-
    قلت لها بوضوح
    . البنات.. ما بيحبوا البنات؟-
    قالت في بجاحة
    -أنا وسيط، ما أكثر، وإنت عارف إنو أنا ما عندي ذنب، إنت ذاتك لو عايز واحدة حأجيبها ليك.
    ولأول مرة في حياتي يصل بي الغيظ حد أن أتهور وأضربها في وجهها، إلي أن سقطت على الأرض، عندما نهضت، أخذتْ زجاجة جِنْ فارغة ورمتني بها، ولكني خفضت رأسي قليلاً، فانكسرت على الباب محدثة دوياً مرعباً، حضرت على إثره أدّي وود أمونة في لمح البصر، وحضر ما يمكن أن أسميه نِصْف سُكان الحي، أو جميع سكان الحي المستيقظين في تلك الساعة من الليل، هذا بالتأكيد كان من حسن حظي حيث إن ود أمونة وأدّي لم يستطيعا أن يرفعا ألم قِشي من على صدري أو يطلقا حنجرتي من كفيها القويتين، وصف لي ود أمونة فيما بعد حالتي بأنني: قرّبت أطلع الروح.
    ولكن ألم قِشي قالت لي إنها ما كانت لتقتلني، ولكنها فقط كانت عايزة تهازر معاي شوية، ولكني على كل وعيتُ الدرس واعتبرت الحادثة أيضاً من فوائد ما بعد الحفل، اكتفى الناس بفض المشاجرة، لم يلمني أحدٌ، ولم يلمها أحدٌ، الملام في كل هذا هو الشيطان الرجيم، العنوا الشيطان، الناس هنا يفعلون المستحيل حتى لا يخسروا بعضهم، وتعجبهم لمّة الناس، فالناس بالناس والكل لرب العالمين.
    -يا دوب ألم قِشي حتحبك بالجد بالجد، لأنها ضاقت إيدك، وعرفت إنك بتحبها لأنك بتغير عليها..... ثم سألني سؤالاً مباغتاً
    إنت بتحبها يا ولد؟-
    كنت مرهقاً، نمت، تركتهما يتحدثان عن بص همدائييت الذي نهبه الفالول بعد ظهر اليوم عند غابة زهانة، نمت يملأني العجب، كيف يصل الخبر عن البص الذي نُهِب في غابة زهانة بعد الحادثة بما لا يزيد عن نصف الساعة، والبص نفسه، كأسرع دابة في تلك البقاع، يحتاج إلى ساعة كاملة لكي يصل إلى هناك من الحلة؟! أليس صحيحاً أن الجن وحده هو المسؤول عن نقل الأخبار في هذه البلاد؟


    ساجور2010
    ساجور2010
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 844
    العمر : 43
    الموقع : السودان
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Unknow10
    الاوسمة : الجنقو مسامير الارض Nashatgf1
    نقاط : 933
    تاريخ التسجيل : 09/03/2010

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ساجور2010 الإثنين 3 مايو - 8:00


    أليس صحيحاً أن الجن وحده هو المسؤول عن نقل الأخبار في هذه البلاد؟
    يا اخوانا ورونا رايكم في الروايه

    وفي اسلوب الكاتب عبدالعزيز بركه ساكن
    وهل توافق علي اسلوب المتبع في منع هذا الروايه




    ود الهلاليه
    ود الهلاليه
    عضو برونزى
    عضو برونزى


    ذكر عدد الرسائل : 570
    العمر : 32
    علم الدولة : الجنقو مسامير الارض SudanC
    المهنة : الجنقو مسامير الارض Studen10
    نقاط : 680
    تاريخ التسجيل : 13/07/2011

    الجنقو مسامير الارض Empty رد: الجنقو مسامير الارض

    مُساهمة من طرف ود الهلاليه الجمعة 15 يوليو - 1:57

    مشكووور

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 21 نوفمبر - 2:38